هناك اتفاق عالمي على أن الجميع خاسرون عند استخدام السلاح النووي، وأنه سلاح للردع فقط، لكن الرئيس الروسي هدد باستخدامه، ليس مرة واحدة، بل كل ما تراجع جيشه وأحس بالهزيمة، ومن المحتمل أن يلجأ إليه، خصوصا بعد تراجع قواته عسكريا، واستياء العالم وتململه من مواصلته الحرب وتسببه في خلق أزمة دولية.
لقد أظهر (الاحتفال) الأخير في موسكو، بمناسبة ضم أجزاء من أوكرانيا إلى روسيا، مدى الاستياء لدى المسؤولين الروس، الذين حضروا المناسبة، إذ خيَّم القلق والوجوم على القاعة، ولم يبدُ أيٌ منهم سعيدا، بمن فيهم الرئيس بوتين نفسه. فهل يستطيع بوتين أن يستمر في هذه المغامرة، مع كل هذا الاستياء الرسمي والدولي، ناهيك عن الشعب الروسي الواقع تحت ضغوط الحرب والعقوبات الغربية، والذي يستعد لإرسال 300 ألف مجند إلى الحرب؟
وهل يستطيع بوتين أن يمضي في تهديداته دون معارضة من القيادات الروسية، خصوصا العسكرية، التي تدرك حجم الخسارة التي يمكن أن تتكبدها روسيا إن اندلعت حربٌ عالمية؟ وإن كان الجميع خاسرين باستخدام السلاح النووي، فهل يمكن أن يردَّ حلف الناتو على أي ضربة نووية روسية بضربة مماثلة؟ وأين يمكن أن تكون هذه الضربة، وما هي درجة قوتها؟ وكيف يمكن تبريرها للشعوب الغربية، خصوصا وأن أضرارها لا يمكن التنبؤ بها، ولا يمكن أن تنحصر في منطقة معينة، بل يمكن أن تتجه باتجاهات معاكسة، وتلحِق أضرارا بمنطقة غير مقصودة؟
وحسب البيانات المعلنة للتسلح النووي العالمي، ومنها تلك التي نشرتها منظمة "آيكان"، الحائزة على جائزة نوبل للسلام لعام 2017، اعترافا بفاعلية حملتها التحذيرية من خطر السلاح النووي، فإن روسيا تمتلك أكبر ترسانة نووية في العالم، إذ يبلغ عدد الرؤوس النووية الحربية لديها 6255 رأسا نوويا، منها 1588 جاهزة للإطلاق، ويعتبر هذا الرقم أقل كثيرا مما كان بحوزة الاتحاد السوفياتي الذي احتفظ بترسانة نووية بحجم 45 ألف رأس نووي، حتى عام 1986.
وتأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية، إذ تمتلك 5550 رأسا نوويا، منها 1644 معدة للإطلاق، يفوق قليلا ما لدى روسيا. بينما تأتي الصين في المرتبة الثالثة، إذ يوجد لديها 350 رأسا نوويا، وفرنسا في المرتبة الرابعة، بـ290 رأسا نوويا، وبريطانيا في المرتبة الخامسة بـ225 رأسا نوويا، وفي السادسة باكستان بـ165 رأسا نوويا، ثم الهند التي لديها 156 رأسا نوويا، ثم إسرائيل التي لديها 90 رأسا نوويا، وأخيرا كوريا الشمالية التي يُعتَقد بأن لديها ما بين 40-50 رأسا نوويا.
كما يوجد تسعون رأسا نوويا أميركيا على الأراضي التركية والإيطالية (50 في تركيا و40 في إيطاليا)، وستون رأسا نوويا أخرى تتوزع بالتساوي بين هولندا وألمانيا وبلجيكا. ويبلغ ما موجود في العالم من رؤوس نووية معدة للإطلاق، أو يمكن إعدادها خلال فترة قصيرة، 13131 رأسا نوويا.
وتشير التقديرات العلمية إلى أن رأسا نوويا واحدا، إذا ما أُسقِط على مدينة مزدحمة، مثل نيويورك، فإنه سيقتل ما يقارب 600 ألف إنسان. وإذا ما ضربنا عدد الرؤوس النووية بأعداد البشر الذين يمكن أن يموتوا بسببها، فإن الرقم يقترب من 8 مليارات إنسان، أي أن عدد سكان الكرة الأرضية جميعا سيُمحَقون محقا إذا ما قامت حرب نووية عالمية شاملة!
ورغم أن هذا الرقم مبالغ فيه، فليس كل المدن مزدحمة كنيويورك، وليس كل سكان الأرض يعيشون في المدن، وأن الحرب إن وقعت، فإنها لن تشمل كل بقاع الأرض، فإن هول المصيبة سيكون عظيما حتى وإن قتل 0.00001% من هذا العدد، في حرب تندلع لا لشيء إلا لهَوَس يتملك أحد القادة، أو من أجل تحقيق طموحات غير مشروعة.
اعتمدت روسيا، ومن قبلها الاتحاد السوفياتي، على القوة العسكرية المحض، من أجل تعزيز هيمنتها العالمية، وكانت أهم صادراتها، وما تزال، بالإضافة إلى النفط والغاز، هي الأسلحة، ورغم أن هذه الصادرات آخذة في التناقص بسبب توفر أسلحة أميركية وغربية أكثر تطورا، فإن تفكير القادة الروس خلال الفترة التي أعقبت حِقْبة الرئيس بورس يلتسن القصيرة، ظل يعتمد على القوة العسكرية كأساس لتحويل روسيا إلى قوة عظمى، علما أنها لم تعد كذلك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
أهم مقومات الدولة العظمى هو حجم الاقتصاد وتنوعه وأهمية الصناعات التي تنتجها، وروسيا مازالت دولة ريعية بنسبة 65%، بينما يقل ناتجها المحلي الإجمالي عن 1.77 ترليون دولار. وهذا الرقم يعتبر متدنيا، مقارنة مع 23 ترليون دولار للولايات المتحدة، و17.73 للصين و5 لليابان و4.22 لألمانيا و3.17 للهند و3.16 لبريطانيا و3 لفرنسا و2.1 لإيطاليا و2 لكندا و1.8 لكوريا الجنوبية. وهو قريب من كندا، 1.6 ترليون، والبرازيل، 1.6، وأعلى قليلا من المكسيك، 1.3، وإندونيسيا، 1.18. (بيانات البنك الدولي لعام 2021).
وحتى في الحِقْبة الشيوعية، فإن الاتحاد السوفياتي، وإن كان دولة عظمى بمقاييس تلك الفترة، فإنه لم يكن دولة مكافئة للولايات المتحدة، اقتصاديا أو عسكريا أو سياسيا، إذ بقيت قوة الولايات المتحدة تتنامى بمرور الزمن، ليس فقط لقدراتها الذاتية، وهي هائلة بكل المقاييس، وإنما بتوسع تحالفاتها في أوروبا وآسيا والمحيط الهادي، وتنامي قوة حلفائها الاقتصادية والعسكرية. لقد تمكنت واشنطن من إقامة علاقات متطورة حتى مع الدول ذات الأنظمة السياسية المختلفة معها، كالصين الشعبية، التي لم تستطع المنظومة الشيوعية السوفياتية التفاهم معها.
ولو تفحصنا سجل روسيا في الالتزام بتعهداتها الدولية، فسوف نجد أنها لم تتردد في مخالفتها. مثلا، روسيا موقعة على اتفاقيات دولية تحظر حيازة أسلحة الدمار الشامل، إلا أنها خالفتها في عهد الاتحاد السوفياتي، إذ انتهك برنامجها للتسلح البيولوجي، وكان الأوسع عالميا، ميثاق حظر التسلح البيولوجي. ورغم أن روسيا موقعة على ميثاق حظر الأسلحة الكيمياوية، فقد حافظت على سلاحها الكيمياوي، إذ أعلنت عام 1997 بأن لديها ما يقارب الأربعين طُنا من الأسلحة الكيمياوية التي سعى الرئيس يلتسن إلى تقليصها تدريجيا، حتى أُعلِن عن تدمير الترسانة كليا في عام 2017. والغريب أن تدميرها المزعوم استغرق 20 عاما!
غير أن تعرض المنشق الروسي، سيرجي سكريبال، وابنته يوليا، للتسميم في مدينة سيلزبري في بريطانيا في عام 2018، ثم تسميم المعارض الروسي، ألكسي نافالني أثناء رحلة جوية عام 2020، بمواد كيمياوية محظورة، لكنه نجا من الموت بعد أن هُرع إلى مستشفيات ألمانيا للعلاج، قد كشف بأن روسيا مازالت تمتلك أسلحة كيمياوية، في مخالفة صريحة لتعهداتها الدولية.
لذلك، من المحتمل أن تخالف روسيا تعهداتها بخصوص السلاح النووي، وقد تستخدمه بشكل محدود لإخافة الشعوب الغربية وللبرهنة على جديتها وتصميمها على الانتصار في الحرب. لكنها تعلم جيدا أن حلف الناتو سوف يتفوق في أي حرب يمكن أن تندلع مع روسيا، خصوصا إذا استُخدِم فيها السلاح النووي، الذي سيقدم كل المبررات لحلف الناتو لمهاجمة روسيا في كل مكان وبشتى الطرق، وسوف تكون العواقب وخيمة جدا على روسيا، كما وصفها الرئيس بايدن وزعماء غربيون آخرون.
كما أن الصين لا يمكن أن تساند روسيا عند لجوئها إلى السلاح النووي، والموقف الصيني البراغماتي الحالي، لم يمنح روسيا أي تأييد حقيقي، رغم أنه لم يدِنها علنا. وكذلك الأمر بالنسبة للهند، التي انتقد رئيس وزرائها، ناريندرا مودي، بقوة التدخل العسكري في أوكرانيا، أثناء مؤتمر "منظمة شانغهاي للتعاون"، الذي جمعه مع الرئيس بوتن والرئيس الصيني شي جينبنغ في سمرقند في سبتمبر الماضي. وليس متوقعا أن تؤيد أي دولة في العالم استخدام السلاح النووي، ما يؤدي عمليا إلى عزلة دولية خانقة لروسيا.
البروفيسور مايكل ماكفول، الأكاديمي والسفير الأميركي السابق في روسيا، قال في تغريدة له على تويتر، إن الهدف من التهديد الروسي المتكرر باستخدام الأسلحة النووية، هو وضع قيود على المساعدات الأميركية المقدمة إلى أوكرانيا، "فعند وقوع الحرب النووية، لن تنفع الطائرات ولا الصواريخ ولا الدبابات"!
وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أعلن أن الإدارة الأميركية أبلغت الروس بأن يتوقفوا عن إطلاق التهديدات باستخدام السلاح النووي، قائلا إن "بإمكان روسيا وحدها أن توقف الحرب وتنهي المشكلة، لأن أوكرانيا لا تستطيع أن توقف الحرب، فإن هي أوقفتها، فإنها ستنتهي كدولة مستقلة".
العديد من المسؤولين والخبراء الأميركيين، أشاروا إلى أن إدارة بايدن أوصلت رسائل عبر القنوات الخاصة إلى روسيا بأن أي استخدام للأسلحة النووية ستكون له عواقب وخيمة على روسيا. ولكن السؤال هو ما هي هذه العواقب؟ وهل سيكترث لها بوتين؟ والأهم من هذا، هل سينفذ الأميركيون فعلا ما وعدوا به من رد حاسم على روسيا؟ أم أنهم سيراوغون ويتجنبون الصدام العسكري المباشر؟
من الصعب على الناتو، أخلاقيا وسياسيا وعسكريا، أن يقابل أي هجوم نووي روسي بالمثل، لأنه سيفقد الشرعية الأخلاقية التي يحارب روسيا بها، بينما ستتضرر الحكومات الغربية سياسيا إن هي تصرفت كما يتصرف بوتين، الذي تصفه بشتى الأوصاف السيئة، والأهم من ذلك، هو أن الأضرار المترتبة على الرد النووي ستكون هائلة، وقد تعود الإشعاعات على الدول الأعضاء في الحلف، أو الصديقة له، أو غير المعنية بالصراع، إذ لا يمكن التحكم بأبعاد السلاح النووي أو مدى انتشار إشعاعاته، وروسيا تعرف هذه الحقيقة وتستغلها.
عندما تطلق روسيا رأسا نوويا على أوكرانيا، فلابد أن تتأثر إحدى دول الناتو القريبة منها، وحينها سيرد الحلف، ولكن بالأسلحة التقليدية، ولديه الإمكانيات أن يكبد روسيا خسائر واسعة النطاق، لا تقل فداحتها عن الأضرار التي تخلِّفها الأسلحة النووية، باستثناء غياب الإشعاعات القابلة للانتشار والإضرار بالمدنيين والبيئة. وأي رد من الناتو سيكون سريعا وقاصما، لأن مثل هذه الحرب لا تتحمل الانتظار والاستمرار لفترة طويلة ومنح الخصم فرصة للرد.
الحرب النووية انتحار حقيقي، لن يلجأ إليه إلا اليائسون، خصوصا عندما يكون الخصم أكثر تسلحا وأقدر فتكا. ولكن، كيف ستنتهي الحرب؟ بوتين يعلم أن خسارته في أوكرانيا تعني نهاية لمستقبله السياسي، وهذه النهاية لا يمكنه أن يتخيلها. لكن الخسارة الروسية قد تحققت فعلا، فلا يمكن أن يثق العالم بروسيا مستقبلا، إلا إذا تغير نظامها السياسي تغيرا جذريا، ومضى على التغير نصف قرن على الأقل، كما حصل في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. لكن الذي يهم بوتين الآن هو ألا تسجل هذه الخسارة باسمه. كان بإمكانه أن يسلك الطرق الدبلوماسية لحل خلافاته مع أوكرانيا، لكنه آثر الحرب، ولا بد أن يتحمل المسؤولية.