الحكمة التقليدية في الاقتصاد تقول إن خفض الضرائب هو إجراء إيجابي، ودليل على قوة الحكومة وكفاءتها، وإنه سيقود حتما إلى تسريع التنمية الاقتصادية ورفع معدل النمو الاقتصادي وخفض البطالة، ولابد أن يستقبله الناس بإيجابية وسعادة. وهذا بالضبط ما كان كوارتنغ وتراس يتوقعانه، لكن العكس تماما قد حصل هذه المرة، وحتى "المستفيدون" المحتملون من خفض الضرائب لم يرحبوا بهذا الإجراء.

يستند كوارتنغ في خططه الاقتصادية على نظرية اقتصادية بالية، برهنت على فشلها سابقا، وإن كانت قد نجحت جزئيا في أمريكا، في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان، نتيجة لعوامل مختلفة تتعلق بقوة الاقتصاد والعملة الامريكيتين، وموقع الولايات المتحدة كقوة عظمى، تمتلك الإمكانيات المادية على التغلب على المصاعب الاقتصادية، ويثق بها العالم، لذلك يسعى إلى اقتناء عملتها أثناء الأزمات الاقتصادية، باعتبارها الملاذ الأخير الآمن لخزن الثروة.

وتعتمد هذه النظرية على تنمية الاقتصاد من جهة العرض، (Supply Side)، أو ما يسمى (Trickle Down Economics) أي التنمية الاقتصادية التدريجية المنطلقة من الأعلى، والتي تتخذ من خفض الضرائب وتقديم التسهيلات للأثرياء والشركات، محفزا للاستثمار وتشجيع الإنتاج وتوفير العمالة، الأمر الذي يخلق الثرة ويحفز الطلب على البضائع والسلع والخدمات، أو هكذا يتصور المؤمنون بهذه النظرية.

لكن العائق الذي يحول دون تطبيق هذه النظرية في الاقتصاد البريطاني هو أن الظروف غير مواتية، والأسباب كثيرة، منها أن معدل التضخم مرتفع ويتصاعد، وأن قيمة العملة منخفضة وتتدنى، وأن أسعار الطاقة تضاعفت، وما يزال الوضع غامضا حول إيجاد بدائل للطاقة الروسية، وأن البنك المركزي البريطاني مستقل عن الحكومة منذ عام 1997، عندما منحته حكومة توني بلير الاستقلالية، وأن الخزينة البريطانية خاوية بسبب تقلص النشاطات الاقتصادية عامي 2020 و2021 بسبب جائحة كورونا. لهذه الأسباب وغيرها، من الصعب أن تنجح خطة كوارتنغ التي أُعدت على عجل من أجل تنفيذ الوعود التي أطلقتها ليز تراس خلال حملتها الانتخابية.

البنك المركزي البريطاني مستمر في رفع أسعار الفائدة بهدف السيطرة على معدل التضخم، عبر تقليص الأموال المتاحة للإنفاق، ما يعني أن الأموال المتولدة من خفض الضرائب سوف تُستهلَك بسبب ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض سعر العملة، وتصاعد معدل التضخم.

سياسة كوارتنغ الضريبية تتعارض تعارضا صارخا مع سياسة البنك المركزي النقدية، والتوجه العالمي لخفض معدل التضخم، الذي ارتفع في معظم بلدان العالم، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، الناتج عن الحرب الروسية الأوكرانية، وتقلص الإنتاج والنشاطات الاقتصادية بسبب جائحة كورونا. فما يوفره دافعو الضرائب من خفض معدل الضرائب، سيخسرون أكثر منه بسبب ارتفاع أسعار الواردات وانخفاض العملة. أما الأثرياء، وهم المنتفع الأكبر من خفض الضرائب، فإنهم في العادة لا ينفقون الكثير من الأموال المتولدة لديهم، بل سيضيفونها إلى مدخراتهم في المصارف، وسوف تكسب مردودا أكثر بسبب ارتفاع أسعار الفائدة.

صندوق النقد الدولي انتقد السياسة الضريبية البريطانية قائلا إن الوقت ليس مناسبا لخفض الضرائب غير الموجهة وبالحجم الذي تضمنته الموازنة المصغرة، "بسبب ارتفاع معدل التضخم عالميا، وتعارض السياسة الضريبية مع السياسة النقدية". مضيفا أن "طبيعة الإجراءات المتضمَنة في الموازنة، سوف تزيد التفاوت بين البريطانيين على حساب العدالة".

وسبب تدخل الصندوق هو الخشية من تأثير السياسة الاقتصادية البريطانية على اقتصادات الدول الصناعية الأخرى، وانتقال "العدوى" إلى باقي البلدان، خصوصا وأن الاقتصاد البريطاني هو السادس عالميا من حيث الحجم، بعد الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا والهند، وأي إرباك يحدث فيه لابد أن ينتقل إلى الاقتصادات الأخرى.

وترى مجلة الإيكونوميست الاقتصادية البريطانية الرصينة، أن من غير المرجح أن تقود موازنة كوارتنغ إلى خلق أزمة في ميزان المدفوعات، لأن لدى بريطانيا "سعر صرف مرنا، وقليلا من الديون بالعملات الأجنبية، وأن البنك المركزي فيها مستقل عن الحكومة"، أي أنه لن يجاري سياسة الحكومة إن كانت غير مجدية اقتصاديا، بل سيعمل على تصحيحها.

مع ذلك ترى المجلة أن الضرر الذي تكبدته بريطانيا خلال الأسبوع الماضي هائل، من حيث إضعاف الثقة العالمية بخطط حكومتها الجديدة، وأن المشكلة الرئيسية في الموازنة هي أن كلفة الإصلاحات الاقتصادية التي تتبناها الحكومة غير محسوبة بدقة، وأن المقاربة لهذه الإصلاحات لا أبالية، ما أدى إلى تراجع خطير في أسعار السندات الحكومية، الأمر الذي سيكبل الحكومة المزيد من الديون ويؤثر سلبا على سجلها الائتماني.

وكان البنك المركزي قد دفع 65 مليار جنيه استرليني من أجل منع الانهيار في أسعار السندات الحكومية البريطانية التي تدنت أسعارها كثيرا بسبب ارتفاع أسعار الفائدة وتناقص الثقة بالاقتصاد البريطاني، الذي قاد إلى خفض قيمة الجنيه الإسترليني بنسبة 20%، وهو أدنى مستوى له منذ عام 1985. ورغم أنه استعاد جزءا من قيمته المفقودة، لكنه مازال متدنيا. ومن فوائد انخفاض سعر العملة، ارتفاع تنافسية الصادرات وتشجيع السياحة، ولأن بريطانيا بلد سياحي، فإن عدد السياح، خصوصا من أمريكا، سوف يزداد، وهذا ما حصل في مناسبات سابقة عندما انخفض سعر العملة.

غير أن منافع انخفاض العملة لا تضاهي الخسائر التي يتكبدها البلد نتيجة لهذا الانخفاض، خصوصا وأن معظم البضائع الاستهلاكية في بريطانيا مستوردة. ومنذ منتصف الثمانينيات، صارت بريطانيا تعتمد بشكل متزايد على الخدمات المالية والسياحية أكثر من الصناعة، وأن شريكها التجاري الأكبر هو الاتحاد الأوروبي، ولأن العملة الأوروبية انخفضت هي الأخرى مقابل الدولار بنسبة 15%، فإن المنافع المتحققة من انخفاض العملة البريطانية محدودة إن قورنت بالخسائر الناتجة عنها.

من الواضح أن "الموازنة المصغرة" لم تكن موفقة، إذ ضاعفت الخسائر على المواطنين، الذين لدى معظمهم ديون عقارية، وأن أقساط هذه الديون ارتفعت بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، التي تصاعدت كنتيجة لهذه الموازنة. كما أن خفض الضرائب للشركات وذوي الدخل المرتفع، ليس في صالح الاقتصاد، ولا عموم الناس، أولا، لأنه لن يحفز الاستثمارات في ظروف اقتصادية قلقة كالتي يشهدها العالم حاليا، وثانيا لأن كلفة هذه الإجراءات مرتفعة، وسوف يتحملها دافعو الضرائب، عبر تقلص قيمة مدخراتهم بسبب ارتفاع معدل التضخم، وارتفاع أسعار الواردات بسبب انخفاض العملة، بينما تزداد تكاليف القروض العقارية على معظم السكان، وفي الوقت نفسه تتناقص أسعار المنازل بسبب الكساد في سوق العقارات، الناتج عن غلاء القروض. أما الفوائد على قروض الدولة فسوف تكون باهظة، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، التي يتوقع كثيرون بأن البنك المركزي سيستمر برفعها تدريجيا، ربما إلى 6% في العام المقبل.

حزب المحافظين يواجه مأزقا حقيقيا الآن، ونوابه قلقون من البداية الكارثية للحكومة الجديدة، التي جاءت نتيجة انتخابات حزبية استمرت شهرين. لا يستطيع الحزب أن يستبدل زعيمته بعد ثلاثة أسابيع من انتخابها، لأن في ذلك مغامرة سياسية مدمرة. كما أن رئيسة الوزراء ووزير المال لا يستطيعان أن يعيدا النظر في "الموازنة المصغرة" التي لم تدققها "دائرة مسؤولية الموازنة"، المتخصصة في تقييم احتمالات الإجراءات المالية، لأن أي تغيير في السياسة الحالية سوف يعتبره الخصوم تخبطا وتراجعا، من شأنه أن يضعف الثقة بالحكومة.

لكن التراجع قد يكون خيارا أفضل من الاستمرار في سياسة من الواضح أنها خاطئة، خصوصا وأنها تميِّز بين الفقراء والأثرياء، حتى في خفض الضرائب، إذا خفضت موازنة كوارتنغ الضرائب بنسبة 5% للفقراء (من 20% إلى 19%) و12.5% للأثرياء (من 45% إلى 40%) وهذا ما أشره صندوق النقد الدولي قائلا إنه يزيد التفاوت على حساب العدالة.

يبدو أن حكومة تراس ستواجه مصاعب جمة خلال السنتين المقبلتين من عمرها، خصوصا بعد موازنتها المستعجلة وغير المحسوبة النتائج، والتي أربكت أسواق المال وانتقدها صندوق النقد الدولي، والدول الحليفة كالولايات المتحدة وألمانيا. زعيم حزب العمال المعارض، السير كيير ستارمر، وصف الموقف في خطابه في مؤتمر الحزب هذا الأسبوع، بأنه "لحظة حزب العمال"، وشبهها بما حدث في الأعوام 1945، و1964، و1997، عندما فاز الحزب في الانتخابات فوزا كاسحا، في ظل قيادة كلمنت آتلي، وهارولد ويلسون، وتوني بلير.

ويبدو أن توقعات ستارمر ليست بعيدة عن الواقع، فقد أظهر استطلاع أخير للرأي، أجري لصالح صحيفة التايمز، التي تدعم حزب المحافظين الحاكم، وأجرته مؤسسة "يوغوف" (Yougov)، التي يملكها ناظم الزهاوي، وزير العلاقات الحكومية في حكومة تراس، أن حزب العمال يتقدم على حزب المحافظين بفارق 33 نقطة، 54% للعمال مقابل 21% للمحافظين! وهذا التفاوت الشاسع في حظوظ الحزبين غير مسبوق منذ أواسط التسعينيات. وحسب بي بي سي، واعتمادا على نتائج هذا الاستطلاع، فإن الانتخابات لو أجريت الآن، فإن حزب المحافظين، الذي يشغل حالية 357 مقعدا في مجلس العموم، سوف يخسر 304 مقاعد لصالح حزب العمال! لكن مثل هذه النتيجة غير متوقعة، خصوصا وأن الانتخابات المقبلة لن تجرى قبل موعدها في يناير 2025.

إن تحذير صندوق النقد الدولي، الذي جاء بعد ثلاثة أيام فقط من موازنة كوارتنغ، يعكس القلق الذي يمكن أن يحدثه الإجراء البريطاني في أسواق المال والسندات العالمية. غير أن التحذير نفسه قد ساهم في إضعاف ثقة الأسواق بالاقتصاد البريطاني، وقد يزيد من الضغوط على الجنيه الإسترليني الذي تتوقع الأسواق بأنه يمكن أن يتدنى ليتساوى بالدولار.

المشكلة الأخرى في التحذير أنه ينتقد تقديم إعانة لمستهلكي الطاقة جميعا، دون أي اعتبار لمستوى دخولهم، ويفضل أن تقدم الإعانة للشرائح الأضعف في المجتمع. وهذا الرأي مكَّن رئيسة الوزراء من التمسك بسياستها الحالية، قائلة إن مساعدة البريطانيين لمواجهة الغلاء هذا الشتاء أمر يتفق عليه البريطانيون جميعا. وتواصل حكومة تراس رفضها الإعلان عن تقييمات مستقلة للموازنة حتى أواخر نوفمبر المقبل، علما أن سبب الإرباك الذي حصل في الأسواق العالمية، هو عدم مرور الموازنة بالإجراءات التدقيقية المعتادة.