يشير الخطاب السياسي المتبادل بين روسيا والغرب حول الحرب في أوكرانيا إلى أن هذا الصراع ممتد لفترة قد تطول بأكثر من توقعات الكثيرين في الأشهر الماضية. ولذلك تأثيرات وتبعات كثيرة، لكن أهمها يظل في قطاع الطاقة – ليس بالنسبة لروسيا وأوروبا فحسب بل على العالم أجمع.
تزيد أهمية تأثير الصراع على قطاع الطاقة مع دخول فصل الشتاء في نصف الكرة الشمالي، وزيادة الطلب الموسمي تقليديا على زيت التدفئة والكهرباء التي ما زالت في أغلبها تأتي من محطات توليد تعمل بالغاز.
في تقريره ربع السنوي الصادر هذا الأسبوع، حذر بنك التسويات الدولي (الذي يوصف بأنه بنك البنوك المركزية) من أن خيارات بريطانيا لتوفير بدائل لوارداتها من الطاقة الروسية محدودة. ولا يتعلق الأمر بالغاز الطبيعي فحسب، الذي تستخدمه موسكو أيضا كسلاح في الصراع للضغط على أوروبا التي تساعد أوكرانيا مع الولايات المتحدة وبريطانيا. بل إن خفض واردات النفط لأوروبا من روسيا ليست هناك سعة انتاج فائضة في العالم لتعويضه.
رغم أن أزمة الطاقة، خاصة في أوروبا، ستعني مزيدا من اجراءات التقشف وربما حتى أضرار بشرية نتيجة البرد القارس في الشتاء إلا أن ذلك يضر بروسيا أيضا. فعائدات النفط تشكل الجزء الأكبر من مصادر الدخل الروسي من صادرات الطاقة (غاز ونفط وفحم). فروسيا تصدر أكثر من 7 ملايين برميل يوميا من الخام وأكثر من مليون من المشتقات المكررة. كما أن شركات مثل روزنفت ولوك أويل تملك عددا من المصافي الرئيسية للنفط في دول أوروبا.
صحيح أنه منذ بدء حرب أوكرانيا في فبراير الماضي، وتراجع استيراد أوروبا من روسيا بنحو مليون برميل يوميا من النفط، وجدت موسكو مشترين آخرين لنفطها. فد زادت الهند والصين وارداتها النفطية من روسيا ربما بهذا القدر ما جعل العائدات الروسية لا تتأثر حتى الآن. لكن اتفاق دول أوروبا على حظر استيراد النفط الروسي تماما بنهاية هذا العام سيعني حاجة روسيا لتصريف ما يزيد عن مليون برميل يوميا أخرى من انتاجها كي لا تنهار عائداتها في وقت تشتد العقوبات الغربية عليها.
لن يكون ذلك سهلا على روسيا، خاصة في ظل احتمال فرض أميركا والغرب سقف سعر على النفط الروسي – وهو اقتراح يبدو غير عملي حتى الآن. لكن حتى بدون سقف السعر، فإن روسيا قد تضطر لخفض انتاجها النفطي إذا لم تجد منافذ تصدير. وتلك مشكلة أخرى، إذ أن الآبار التي تتوقف عن الانتاج تحتاج إلى إعادة تأهيل بعد ذلك ربما يستغرق سنوات.
ربما تتحمل الأسواق العالمية غياب مليوني برميل يوميا من النفط الروسي عن المعروض العالمي، فهناك سعة انتاج اضافية في السعودية والإمارات تكفي لتعويض هذا النقص بما يحافظ على توازن السوق. لكن المشكلة ستكون في انهيار الطلب العالمي نتيجة الركود الاقتصادي واستمرار وسيا في الانتاج، البيع باسعار تفضيلية مخفضة لزبائنها التقليديين والجدد في غير أوروبا – حتى بدون حظر سقف السعر. في هذه الحالة، سيختل توازن العرض والطلب في السوق ويضغط على الأسعار نزولا بما يضر بالجميع منتجين ومستهلكين.
كل هذا لن يفيد أوروبا بأي حال، فأزمة الطاقة لديها تزداد تعقيدا خاصة وأنها بدأت حتى قبل حرب أوكرانيا وفرض العقوبات على روسيا وقطع روسيا بعض امدادت الغاز الطبيعي لأوروبا. فليس لدى أوروبا مورد إقليمي مهم للنفط والغاز سوى النرويج. وتنتج النرويج بأقصى طاقتها منذ ثمانية أشهر، لكن قدرتها على توفير البديل لمصادر الطاقة الروسية لا يصل إلى ثلث تلك الورادات الأوروبية.
من السهل طبعا الحديث عن تطوير بدائل للطاقة، وأيضا التحول من مصادر الطاقة التقليدية إلى الطاقة المتجددة. لكن ذلك يحتاج إلى سنوات طويلة بينما تواجه أوروبا أزمة حادة بعد شهر أو شهرين. حتى محطات توليد الطاقة التي تعمل بالطقاة النووية تشهد تراجعا، إما لإغلاق بعضها بسبب وصولها إلى نهاية العمر الافتراضي للمفاعلات أو للصيانة نتيجة الأعطال أو حتى بسبب انخفاض منسوب المياه في الأنهار التي أقيمت عليها وتستخدم مياهها في التبريد. والعالم الأخير سببه موجة الجفاف التي ضربت أوروبا وارتفاع درجات الحرارة ما يجعل المياه غير صالحة تماما لتبريد المفاعلات.
ربما كانت الولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر، بشكل آني ومؤقت، لأنها زادت صادراتها من النفط والغاز في الأشهر الأخيرة لدول أوروبا، بنسب ما بين 10 و20 في المئة. وبالتالي زادت عائدات الشركات الأميركية، خاصة التي تصدر شحنات الغاز الطبيعي المسال وهو غالي الثمن عن الغاز الطبيعي الذي ينقل عبر خطوط الأنابيب.
وحسب الأرقام المختلفة من مصادر التحميل ومن وكالة الطاقة الدولية فإن أميركا استفادت من أزمة الغاز الأوروبية أكثر حتى من منتجي الغاز الكبار مثل قطر وغيرها. مع ذلك، فإن كل ذلك قد لا يكفي لتدفئة أوروبا في فصل الشتاء القادم.
وحتى إذا تراجع الطلب وأصبح اقل بكثير من العرض وانخفضت الأسعار، فإن قدرة أوروبا على استخدام فائض المعروض في السوق العالمية محدودة. سواء من حيث محطات معالجة الغاز المسال وتحويله إلى غاز أو وجود خطوط أنابيب اقليمية بين الدول الأوروبية التي تستقبل الشحنات وتلك المستهلكة للغاز في داخل القارة. وإذا كانت بعض أنواع النفط الأميركي قريبة من خصائص خام الأورال الروسي الذي تعمل عليه أغلب المصافي في أوروبا، فإن ذلك أيضا غير كاف للحفاظ على تلبية احتياجات أوروبا كاملة.