هنا يبقى السؤال: هل بايدن قادر فعلا على فرض الريادة الأميركية المنفردة للعالم التي تمثل جوهر مشروع القرن الأميركي؟ أم أن حلم القرن الأميركي يجب أن ينتظر رئيسا جمهوريا قادرا على إعادة الاعتبار إليه؟ الإجابة على هذا السؤالين تقتضي التطرق إلى السياسات التي انتهجها بايدن داخليا وخارجيا ومدى اقترابها أو ابتعادها عن مقتضيات هذا المشروع وطموحه، خاصة أن بايدن يقترب من إتمام عامه الثاني في الحكم وتكاد مدة ولايته أن تنتصف، وهي فترة كافية للحكم على ميوله وتوجهات سياساته وتوقع ما ستصير عليه بلاده عند مغادرته مكتبه.

في عام 2015 صدر لأستاذ العلوم السياسية البارز في جامعة هارفارد جوزيف ناي الأبن، كتابا بعنوان "هل انتهى القرن الأميركي؟"، ورغم أن المؤلف الذي شغل منصب نائب وزير الدفاع في إدارة كلينتون أجاب بالنفي على هذا السؤال، وشدد على أن "القرن الأميركي" ما يزال صامدا، وتوقع أن تظل الولايات المتحدة القوة المهيمنة عالميا حتى حلول عام 2041، إلا أنه ربط استمرار تفوق الولايات المتحدة بنجاحها في معالجة مشكلاتها الداخلية مثل الاقتصاد والديون، التعليم، الرعاية الصحية، والنظام السياسي وغيرها، ومشكلات سياساتها الخارجية المتمثلة في حاجته الملحة إلى شركاء، لأنها لن تتمكن بمفردها من معالجة القضايا العابرة للقارات، التي باتت تسيطر على جدول أعمال العالم كالإرهاب، وقضايا المناخ والبيئة والطاقة، والأوبئة .. الخ

وبنظرة سريعة على سياسات بايدن داخليا وخارجيا خلال ما يقرب من عامين من حكمه نستطيع أن نستشرف مستقبل القيادة الأميركية للعالم كما يعمل عليها بايدن، وإذا بدأنا بالسياسة الخارجية باعتبارها مجال التنافس الرئيسي على قيادة العالم فإن نظرة سريعة أيضا على ما وصل إليه حال العالم الآن وبعد أقل من عامين من جلوس بايدن على المكتب البيضاوي يمكن أن تعطينا مؤشرات واضحة إلى أين سنمضي العامين المقبلين.

وإذا بدأنا بما يهمنا في منطقة الشرق الأوسط سنرصد دون عناء زيادة المتاعب التي تعانيها المنطقة وزيادة التهديد لأمن واستقرار دولها الرئيسية واهتزاز ثقة أهم حلفاء واشنطن فيها وتخوفهم من تراجعها عن الوفاء بالتزاماتها تجاه أمن المنطقة نتيجة ترددها حيال الكثير من الملفات المتعلقة وأبرزها طريقة التعاطي مع السلوك الإيراني في الإقليم وتداعياته، وهي الطريقة التي شهدت تباينا كبيرا بين إدارتي ترامب وبايدن، فربما كانت أبرز النجاحات التي حققتها إدارة ترامب في مجال السياسة الخارجية، هو تبنيها منذ أيامها الأولى رؤية شاملة ومغايرة لطبيعة الخطر الإيراني لا تحصره فقط في شقه النووي، ولكنها تضع في الحسبان جميع تجليات السلوك الإيراني العدائي في المنطقة كتدخله في شؤون دول المنطقة وتهديده لأمن الحلفاء التقليديين لواشنطن ودعمه لميليشيات مسلحة وجماعات إرهابية.

لذا لم يكتفي ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي المعيب مع إيران في مايو 2018، بل حاولت تشكيل تحالف دولي بهدف مراقبة النظام الإيراني من خلال منظور أكثر واقعية، ليس من خلال منظور الاتفاق النووي فقط، بل من خلال كل أنشطته المزعزعة للاستقرار التي لا تشكل تهديداً للمنطقة فحسب بل للعالم أجمع، حسب تعبير وزير الخارجية وقتها مايك بومبيو.

وأعلنت تلك الإدارة استعدادها للتفاوض معه على "اتفاق جديد" أوسع بكثير من اتفاق 2015 ولكن أكثر صرامة بهدف تغيير سلوك إيران المزعزع لأمن واستقرار المنطقة ودورها في تأجيج صراعات الشرق الأوسط وتهديد أمن واستقرار دول الجوار، وبرنامجها للصواريخ الباليستية، وهو ما كان يعكس إدراكا أميركيا وقتها لحقيقة أن خطر إيران في سلوكها ومشروعها وليس فقط في برنامجها النووي، لذا سعت لصياغة مقاربة شاملة تتعامل مع المشروع الإيراني برمته وليس فقط مع تجلياته النووية، ولهذا لم تكتفِ إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي لكنها اتبعت ذلك بخطوات أكثر أهمية كان أخرها قبل عشرة أيام فقط من انتهاء ولايتها، عندما اتخذت قرارها بتصنيف جماعة الحوثي في اليمن على قائمتها السوداء للجماعات "الإرهابية" وإدراج ثلاثة من قادتها على قائمة الإرهابيين الدوليين.

وعلى الرغم من أن القرار لاقى وقتها ترحيبا إقليميا ودوليا واسعا لكنه لم يجد فرصة للتنفيذ بعد أن كان إلغائه من أوائل القرارات التي اتخذتها إدارة بايدن بعد أيام قليلة من توليها دفة الأمور في البيت الأبيض، ولم يكن قرار حذف الحوثيين من قائمة المنظمات الإرهابية هو الوحيد من إدارة بايدن في هذا الاتجاه، بل سبقه بيوم واحد إعلان بايدن نهاية الدعم الأميركي لعمليات التحالف العربي التي تقودها السعودية في اليمن، الأمر الذي أعطى إشارات على الموقف المتردد للإدارة الأميركية الجديدة حيال ملف من أكثر الملفات تأثيرا على أمن واستقرار المنطقة، وهو الأمر الذي زاد من إرهاب الحوثيين وأطلق العنان لأعمالهم الإجرامية وصواريخهم الباليستية وطائراتهم المسيرة لتصل إلى العاصمة السعودية ومن بعدها العاصمة الإماراتية وتهدد أمن واستقرار اثنين من أهم حلفاء واشنطن في المنطقة.

أما الصفقة النووية المعيبة التي انسحب منها ترامب، والتي كانت سببا مباشرا في انطلاق المشروع التوسعي لإيران في المنطقة بسرعة أكبر بعد أن حررتها من العقوبات التي كانت تعرقل مشروعها، فإن أقصى طموح لإدارة بايدن حاليا هو العودة لهذا الاتفاق في أسرع وقت وأيا كانت النتيجة التي سيفضي إليها والتوترات الإقليمية التي قد تنجم عن إعادة العمل به، ومهما كانت التنازلات التي ستقدمها، وخلال 16 شهرا من المفاوضات في فيينا بدا أن إيران هي الطرف الأقوى في المفاوضات وهي من يضع شروطه ويفرض كلمته ويرفع سقف مطالبه ويرفض تقديم أي تنازلات.

وبعيدا عن إيران وملفها لكن قريبا جغرافيا منها كان القرار الأغرب لبايدن هو الانسحاب الأميركي العشوائي من أفغانستان بتداعياته الكارثية، ليس فقط على أفغانستان التي شهدت عودة حركة طالبان للحكم وعودة تنظيمي القاعدة وداعش إلى صدارة المشهد مرة أخرى، ولكن أيضا على كثير من حلفاء واشنطن وعلى أمن واستقرار منطقة بأسرها، وهو القرار الذي وصفه نائب الرئيس الأميركي السابق، مايك بنس بأنه أكبر إذلال لواشنطن على الساحة الدولية منذ 40 عاما، أما ترامب فقد وصف ما حدث في أفغانستان بالعار وأكبر الهزائم في التاريخ.

أما كوريا الشمالية التي كان ترامب أول رئيس أميركي يعبر حدودها ويلتقي زعيمها في يونيو 2019، فأجرت في عهد بايدن وتحديدا في يناير الماضي أكبر عملية إطلاق صواريخ منذ عام 2017 رغم المعاناة الكبيرة للاقتصاد الكوري الشمالي المتعثر.

وفي بقعة أخرى من العالم دخلت روسيا أوكرانيا ويبدوا أنها لن تخرج منها قريبا، وبدت واشنطن عاجزة حتى الآن وبعد مرور نحو نصف عام من اندلاع الأزمة عن أن تثني موسكو عن تحقيق أهدافها هناك كما حققتها من قبل في جورجيا وشبه جزيرة القرم وكازاخستان.

ومع الصين لم تفعل واشنطن شيئا إزاء محاولاتها تغيير الوضع الخاص لهونج كونج وتايوان أو مساعيها لفرض سيادتها على بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه، ولم تقدم على أي عمل ملموس سوى بعض العنتريات الكلامية والتحركات الاستعراضية مثل زيارة نانسي بيلوسي لتايوان والتي فشلت في استفزاز بكين ودفعها لتحرك عسكري كانت تتمناه واشنطن، بل إن الخطوة العملية الأميركية في هذا الصدد، والمتمثلة في تشكيل تحالف "شيب 4" لتوريد أشباه المواصلات توقفت خوفا من انتقام صيني، فهذا التحالف المقترح بين واشنطن ودول شرق آسيا وتحديدا كوريا الجنوبية واليابان وتايوان، يشكل جزءاً من استراتيجية الولايات المتحدة لتعزيز فرص حصولها على الرقائق الحيوية وإضعاف المشاركة الصينية، لأسباب تتعلق بالتجارة والأمن القومي.

ولكن بعد عام من وضع خطط تشكيل التحالف الذي يفترض أن يوفر ساحة للحكومات والشركات لمناقشة وتنسيق السياسات المتعلقة بأمن سلاسل التوريد، وكان يهدف جزئيا إلى إبطاء التقدم الصيني في مجال الرقائق، لم تستكمل الدول الأربعة خططها بعد، ولم يتم الانتهاء حتى من وضع خطة لعقد اجتماع تمهيدي خوفا من الاستجابة الصينية المحتملة، والتردد بشأن إدراج تايوان في منتدى حكومي دولي، خوفا من الصين.

لم يقتصر فشل بايدن في إدارة سياسة بلاده الخارجية مع أعدائها ومنافسيها فقط، كما هو الحال مع روسيا والصين وكوريا الشمالية، لكنه امتد أيضا إلى أهم وأبرز حلفائها الأطلسيين والأوربيين وهذا محل بقية الحديث في المقال المقبل.