لكن المغالاة في ترويج الفتاوى من كل ما هب ودب ليس فقط تسطيحا وتسلية بالثرثرة الفارغة، إنما هو خطر على الأجيال القادمة كلها وربما كان بذرة انهيار لكل ما تقوم عليه المجتمعات. لا يقتصر الأمر على وسائل إعلامنا العربية، بل أصبح موجودا أيضا في وسائل الإعلام الغربية حتى الكبرى منها التي كانت تعد حتى قبل وقت قريب صحافة مهنية وإعلاما رصينا. الفارق بين اعلامنا واعلامهم أنهم إلى جانب "التفاهة" ستجد أخبارا بالفعل وتحليلات وآراء تتعلق بالقضايا العامة التي تهم الناس أما عندنا فإعلامنا في أغلبه إما صفحات "حوادث" و"منوعات خفيفة" أو "خبل" من إعادة تدوير مواقع التواصل.

خطورة ذلك أنه فقط لا "يلهي" الرأي العام عن القضايا العامة التي ليس مطلوبا أن يكون له رأي فيها بالأساس على طريقة "خلوهم يتسلوا"، إنما أن استمرار ذلك والمزايدة فيه تؤدي في النهاية إلى مجتمعات مجهلة بل وربما ينتهي بها إلى ممارسات تنال من تماسكها وتطوير علاقاتها بشكل سليم، ناهيك طبعا عن إعاقة أي محاولات للتطوير نحو مستقبل أفضل.

ما هي "المصلحة العامة" الملحة في تكرار أن "5 اثرياء في العالم خسروا.. مليار في ساعات" كلما هبطت مؤشرات الأسواق أو انهارت العملات المشفرة؟ وما هي القيمة الخبرية في أن تتنافس وسائل الإعلام في النشر المكثف لقصة "يوتيوبر شهير يجرح نفسه بموسى الحلاقة"؟ أو أن "الملياردير الشهير يقول إن جراحة المخ ينبغي ان تكون هكذا"؟

حين كانت الصحافة الورقية هي الوسيلة الإعلامية السائدة، كانت أخبار شبيه بهذه مكانها جزء من الصفحة الأخيرة باعتبارها مادة للتسلية والترفيه عن القارئ في آخر الوجبة الصحفية "الدسمة" من صفحات الجريدة. أما الآن، فقط أصبحت أغلب وسائل إعلامنا، كلها "من الغلاف للغلاف"، ذلك الجزء من الصفحة الأخيرة.

لا مشكلة إذا لم توجد أخبار حقيقية مهمة، أو أنه يصعب تناولها لأسباب مختلفة أو أن الآراء الجادة والرصينة لم تعد "لها سوق" في وقت تحاول فيه وسائل الإعلام جاهدة أن توازن ميزانياتها كي تستمر وتحتاج إلى متابعين لتتمكن من توفير عائدات من الإعلانات الرقمية. لكن "للإسفاف حدود".

ليس لدينا سوق إعلامي حر يبرر القول بأنه "فليطرح كل ما عنده وللمستهلك ان يميز الغث من السمين ويتابع ما يراه ينفعه". وإذا كانت أهم وظيفة للصحافة والإعلام هي "توصيل المعلومات للجماهير وبالتالي تشكيل وعيهم" فإن السائد في أسواقنا الإعلامية الآن هو العكس تقريبا. ولا مصادرة هنا على رأي أو توجه أو أسلوب، لكن أن يؤدي ذلك إلى تسطيح عام وتدهور الوعي الجمعي للجماهير فهذا اضرار بالمصلحة العامة له توصيف في القانون ويتطلب التصدي له. فللحرية حدود لا يصح تجاوزها إلى حد الضرر.

على سبيل المثال، من يسمون "المؤثرون" – أي من لديهم متابعون بأعداد كبيرة على حساباتهم في مواقع التولصل مثل فيسبوك أو تويتر أو إنستغرام – لديهم تلك الدائرة الخاصة بهم التي يروجون فيها ما يصدر عنهم. وغالبا ما يعمل هؤلاء في ترويج السلع والخدمات لمنتجين يرون في المؤثرين وسيلة إعلان أفضل. فلماذا تتبارى وسائل الإعلام في نقل كل رأي أو "فتوى" بجهل عن هؤلاء المشاهير وتلح على الجمهور العام في عرضها على نطاق أوسع مما لدى المشاهير من متابعين؟ ما هي المصلحة العامة في ذلك، خاصة إذا كانت تلك الفتاوى كارثية أحيانا؟. فبدلا من حصر الضرر في دائرة متابعيهم، يوسع الإعلام الخطر بين الملايين.

أن يراكم المرء المليارات، سواء من أرباح عمل أصيل مفيد للبشرية أو حتى من السمسرة والمضاربة، فلا يجعله ذلك "خبيرا" في كل شئ بحيث يتلقف الإعلام ما يفتي به من السياسة إلى الطب. نعم، الشهرة مغرية وهي كماء البحر شديد الملوحة كلما شربت منه ازددت ظمأ. لكن ما مشكلة المجتمع مع حاجة هؤلاء لمزيد من الشهرة إلى جانب الثروة؟ لندعهم ينشئون بأموالهم منافذهم الإعلامية، كما فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وفشل أو كما يريد أن يفعل الملياردير صاحب شركة تيسلا إيلون ماسك بشرائه تويتر.

لا يعني نجاح ماسك المبهر، وهو الذي لم يكمل تعليمه، حتى أصبح أغنى رجل في العالم أنه يفهم في كل شئ – فالمنطق البسيط صحيح بأن "من يفهم في كل شئ لا يفهم في شئ". ربما له أن يفتي في شؤون البورصة والمضاربة على الأسهم والأوراق المالية لكن أن يروج الإعلام لآرائه المتسمة بالشطط من الطب إلى السياسة فهذا خطر جسيم على البشرية كلها. يقابل ماسك بالعربي ملياردير مثل نجيب ساويرس، وهو متعلم وذكي، لكن ثروة والده حالت دون تحقيق رغبته في أن يكون "ناشطا" سياسيا بارزا أيام الجامعة فيحاول تلبية ذلك بعدما راكم المليارات. وكادت تغريدة له مؤخرا ان تشعل فتنة طائفية في مصر، وهكذا أغلب آرائه في الدين والسياسة وغيرها – مثيرة وخطيرة، لكنها فتاوى عن غير ذي علم في الأغلب الأعم.

نصيحة للإعلام: دعوا المشاهير يفتون في دوائرهم الضيقة ولا تروجوا لفتاواهم، ولا حتى بالتصدي لها إذا رأيتم فيها خطرا على المجتمع وإضرارا بالمصلحة العامة. فالرد عليهم ترويج لشططهم بالتفريغ السلبي.