غير أن الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها البعض، لأن هذه البلدان لم ترتبط بالتاج البريطاني بسبب حبها للملكة الراحلة، على علو مكانتها، بل هي ارتبطت بالامبراطورية البريطانية ولها مصالح وثيقة الصلة بها، ولا يمكنها المغادرة دون أن يكون هناك سبب أو مصلحة واضحة.

إضافة إلى ذلك، فإن كثيرا من الدول قد غادرت التاج في عهد الملكة الراحلة. عندما تولت الملكة إليزابيث الثانية العرش في فبراير-شباط من عام 1953، كان هناك 32 دولة تابعة للتاج البريطاني، لكن هذا العدد قد تقلص عند رحيلها إلى 15، بما فيها بريطانيا.

وكانت باربادوس آخر الدول التي غادرت التاج البريطاني في نوفمبر 2020، وكان ولي العهد، الملك الحالي، الأمير تشارلز، حاضرا في حفل إعلان الجمهورية وتنصيب الرئيس الجديد، ساندرا ميسون، التي كانت حاكما سابقا لباربادوس وتحمل لقبا شرفيا بريطانيا (دَيْم). وقد اعتذر تشارلز في كلمته عن التأريخ الكولونيالي لبريطانيا متمنيا للدولة الجديدة التطور والازدهار ومغادرة الماضي. وقبل باربادوس، خرجت موريشوس عن التاج وأعلنت الجمهورية عام 1992. 

أستراليا هي الأخرى حاولت إعلان الجمهورية لكن الاستفتاء لم يكن لصالحها. هناك حركة كبيرة في أستراليا لإعلان الجمهورية خصوصا بعد تدخل الحاكم العام الأسترالي، السير جون كير، الذي يمثل العرش البريطاني، في شؤون السياسة الأسترالية وإقالته الحكومة العمالية برئاسة غاو ويتلام عام 1975، إثر انسداد سياسي دام طويلا ولم تحسمه الانتخابات. وقال السير جون، وهو أسترالي يمثل التاج البريطاني، وكان عين بمنصبه بمقترح من رئيس الوزراء ويتلام، إنه فعل ذلك دون استشارة قصر باكينغهام، لكن الوثائق التي توفرت لاحقا تشير إلى أن سكرتير الملكة الخاص، أخبره بأن إقالة الحكومة الأسترالية المنتخبة تقع ضمن صلاحياته.

كما أشارت الوثائق إلى أن الأمير تشارلز، الملك الحالي، كتب له لاحقا بأن ما فعله كان صحيحاً وشجاعا. لقد تسبب تدخله ذاك في إثارة الرأي العام الأسترالي ضد تبعية أستراليا للعرش البريطاني، خصوصا بين أتباع حزب العمال، الأمر الذي اضطره إلى الاستقالة المبكرة من منصبه بعد سنتين. لكن الذي حال دون إعلان الجمهورية في أستراليا هو الإجراءات المعقدة لمثل هذا الانفكاك الذي يتطلب إجراء استفتاء عام يصوت فيه الأستراليون بغالبية مطلقة في أربع من الولايات الست، وهذا ليس بالأمر السهل. 

وتشير استطلاعات الرأي في أستراليا إلى أن ثلث الأستراليين يؤيدون فك الارتباط بالعرش البريطاني وإعلان الجمهورية، ما يعني أن مؤيدي الجمهورية مازالوا أقلية وأن أستراليا سوف ستبقى جزءا من التاج البريطاني على الأمدين القريب والمتوسط وأن الملك تشارلز الثالث، الذي زار أستراليا مرات عديدة واستُقبل استقبالا رسميا وشعبيا حافلا، سوف يبقى ملكا لأستراليا خلال الأمد المنظور. وكان رئيس وزراء أستراليا العمالي، أنتوني ألبانيز، قد وعد بإجراء استفتاء خلال السنوات الثلاث المقبلة، وقد عين وزيرا مهمته النظر في الانتقال إلى النظام الجمهوري، لكنه غيَّر رأيه بعد رحيل الملكة إليزابيث قائلا إنه يجب تكريس الوقت الآن للاحتفاء بذكرى الملكة ومآثرها، وليس لإجراء تغيير سريع. 

في نيوزيلاندا، تبدو عملية مغادرة التاج البريطاني أسهل من أستراليا، إذ بإمكان البرلمان أن يعلن الانفصال عن العرش البريطاني بغالبية بسيطة، لكن نيوزيلندا لم تكترث لهدا الأمر، خصوصا وأن معظم سكانها من أصول بريطانية، وهي تعتبر الأقرب إلى بريطانيا ثقافيا من كل الدول الأخرى التابعة للتاج البريطاني. رئيسة وزراء نيوزيلاند، جاسيندا آردرن، تؤيد التحول إلى الجمهورية وقالت إن بلادها سوف تصير جمهورية خلال حياتها، لكنها هي الأخرى غيَّرت رأيها بعد رحيل الملكة وقالت إنها لا تعتقد بأن التحول سيحصل خلال فترة وجودها في رئاسة الوزراء. ومن المحتمل أن تبقى نيوزلندا، التي لا يتجاوز عدد سكانها الخمسة ملايين نسمة، مرتبطة بالتاج البريطاني في المستقبل المنظور إذ لا توجد أي مصلحة في مغادرته الآن أو في المستقبل القريب.

أما في كندا فإن الانفصال عن التاج البريطاني هو الأصعب بين كل الدول الأخرى المرتبطة به، لأنه يتطلب موافقة مجلسي النواب والشيوخ والمجالس التشريعية في المحافظات، وهذا الأمر يتطلب جهدا استثنائيا وقد لا يتحقق، لذلك لن تُقْدِم كندا على مثل هذا الإجراء في المستقبل المنظور. وحسب رأي الأستاذة في العلوم السياسية في جامعة ووترلو الكندية، إيميت ماكفارلين، فإن السبيل المتبقي لمغادرة كندا التاج البريطاني هو "أن تتخلى المملكة المتحدة نفسها عنه"! وهذا الأمر لم يطرح في بريطانيا للنقاش العام مطلقا، ولا أعتقد بأنه سوف يطرح في أي وقت في المستقبل، فالبريطانيون، باستثناء أقلية آخذة في التناقص، مقتنعون بأن النظام الملكي هو الأفضل لهم، لما له من مزايا ومنافع سياسية واقتصادية واجتماعية. المراسيم الملكية والمعالم الأثرية والقصور الملكية ورموز العائلة المالكة تستقطب السياح من كل أنحاء العالم، وفق حسابات إحصائية دقيقة، والتخلي عن النظام الملكي سوف يجرد بريطانيا من هذه المنافع الاقتصادية الكبيرة ويقلل من وشائج ارتباط الدول الأخرى بها. 

حاول بعض الدول الصغيرة في البحر الكاريبي أن يغادر التاج، لكن العملية ليست سهلة، خصوصا وأن النظام القضائي في هذه الدول مرتبط بالمجلس القانوني الاستشاري الملكي، (The Privy Council)، والذي تتخذ منه هذه الدول محكمةً عليا، وهذا يعني أن على هذه الدول أن تجري تغييرا جذريا، ليس لنظامها السياسي فحسب، وإنما لنظامها القضائي والقانوني أيضا.

لم تتردد أي من الدول المرتبطة بالتاج البريطاني في عهد الملكة إليزابيث الثانية أن تفك الارتباط الرسمي بالمملكة المتحدة عندما كان هناك استعداد رسمي ومزاج شعبي للمغادرة، لذلك فإن القول إن تولي الملك تشارلز الثالث عرش بريطانيا سيجعلها تقْدِم على فك الارتباط بالتاج، هو غير صحيح من حيث أن المسألة تتعلق بالمزاج الشعبي في تلك الدول ومدى الفائدة التي يمكن الحصول عليها من إجراء كهذا. في أستراليا هناك ثلث السكان تقريبا يفضلون الانتقال للنظام الجمهوري، لكن غالبية الشعب لا ترغب بمغادرة التاج، إذ يشعر أستراليون كثيرون بأن التاج يمثلهم ولا ننسى أن معظمهم من أصول بريطانية وآيرلندية.

جامايكا هي الأخرى حاولت مرات عديدة وأعلنت عن خطط لمغادرة التاج، لكنها لم تستطِع لأسباب خاصة بها وليس بسبب ضغوط خارجية. سان فنسينت أجرت استفتاء على الموضوع عام 2009، لكن الشعب صوتَ ضد فك الارتباط بالمملكة المتحدة. الارتباط بالتاج البريطاني لم يحصل صدفة، وإنما هناك مصالح متشابكة وعلاقات تأريخية ومشاعر شعبية متعلقة به، والدول الراسخة لا تتخذ قراراتها بناءً على دوافع عاطفية ومزاجية، أو وفق مبادئ أيديولوجية حديدية، وإنما وفق المصالح الآنية والمستقبلية. المرجح أن الدول الخاضعة للتاج البريطاني حاليا لن تفك ارتباطها بهذا التاج لمجرد أن الملك قد تغير، بل قد يكون رحيل الملكة حافزا لها للبقاء ضمن التاج، كما رأينا في حالتي أستراليا ونيوزلندا، اللتين أرجأتا التفكير بالموضوع في الوقت الحاضر بسبب رحيل الملكة. 

شعوب دول البحر الكاريبي الصغيرة لديها مشاعر أليمة منشأها تأريخي، فتجارة العبيد التي كانت تحصل في تلك المناطق، ودور بريطانيا فيها، جعلها ترغب معنويا في مغادرة التاج وهذا مفهوم، فهي لا تشعر باستقلال حقيقي ومغادرة الماضي مادام رئيس الدولة هو ملك بريطانيا. وقد عبَّر ولي العهد الحالي الأمير وليام أثناء زيارته إلى جاميكا مطلع العام الجاري عن رأيه في هذه المسألة قائلا: "أود أن أعرب عن حزني العميق (حول دور بريطانيا في تجارة العبيد...). العبودية مقيتة. وكان يجب ألا تحدث مطلقا" وقد اعتبر هذا التصريح اعتذارا لشعب جامايكا. وكان والده الملك تشارلز قد عبَّر أيضا عن مشاعر مماثلة في العام الماضي أثناء حضوره انفكاك باربادوس عن التاج.

 رئيس وزراء أنتيغوا وباربودا، غاستن براون، أعلن بعد رحيل الملكة أنه سوف يجري استفتاءً في بلاده خلال ثلاث سنوات حول مغادرة التاج وإعلان الجمهورية. وقال براون للتلفزيون البريطاني (ITV) إن هذا الإجراء "ليس عدائيا على الإطلاق، وهو لا يعبِّر أبدا عن عدم احترامنا للملكية البريطانية، لكنه خطوة لاستكمال حلقة استقلالنا الحقيقي كدولة مكتملة السيادة. غير أن الأمر مختلف بالنسبة لدول التاج الأخرى، غير المرتبطة بتجارة العبيد، مثل كندا وأستراليا ونيوزلندا، التي لا تعتبر ارتباطها بالتاج البريطاني تبعية أو انتقاصا من سيادتها.

والارتباط بالتاج لا يؤثر مطلقا على استقلال كل الدول المرتبطة به، وما حصل في أستراليا عام 1975 كان حالة منفردة، سببها الانسداد السياسي والصراع بين مجلسي النواب والشيوخ الذي لم تحسمه الانتخابات، ما دفع ممثل التاج البريطاني إلى إقصاء رئيس الوزراء العمالي وتكليف رئيس حزب الأحرار بتشكيل الحكومة.

يتمتع الملك تشارلز الثالث بشخصية قوية وثقافة عالية، وله اهتمامات إنسانية وبيئية عديدة، وأن قادة وشعوب الدول المرتبطة بالتاج يعرفونه جيدا منذ عقود، وتربطهم به علاقات وثيقة، ولا شك أن الإبقاء عليه ملكا في بلادهم سوف يجلب لهم الاهتمام العالمي الذي يحتاجونه، سياسيا واقتصاديا. الملك تشارلز في المقابل سوف يعمل على تعزيز علاقاته بهم، الأمر الذي يعزز متانة النظام الملكي ويساهم في ديمومته، وهو لا يتردد في تقديم الاعتذار للشعوب التي تشعر بظلم نتيجة لممارسات حصلت إبان الإمبراطورية البريطانية.

وعلى الرغم من رمزية التاج، وكون المسألة بروتوكولية بحت، ولا تؤثر على العلاقات بين بريطانيا والدول الأخرى، التي انفصلت أو تفكر بالانفصال، فإن هناك منافع سياسية واقتصادية تحصل عليها الدول المرتبطة بالتاج البريطاني، لكن دول الكاريبي الصغيرة لديها تأريخ أليم تريد أن تضعه خلفها عبر فك ارتباطها بالتاج البريطاني، بغض النظر عن المنافع التي قد تبدو هامشية في نظر قادتها.