الدولة كباطل والوطن كباطن «فارس يحيي قبيلة، وقبيلة ما تحيي فارس» (مثل ليبي قديم)
*****
"من أطلق النار على ماضيه من فوّهة مسدّس، سوف يطلق عليه المستقبل النار من فوّهة مدفع"
(حكيم القوقاز الشيخ أبو طالب)
يستخدم «إبن آوى» الواقع الليبي البائس تعبيراً خبيثاً، كعادة سَدَنة «ملّة العدم» في الدّسّ، هو: «متنفّذ»، عندما يأتي على سيرة الأب، ليوحي للأبرياء، أو ربّما لأمثاله في محفل «بنات آوى»، كم حظي شخصي بهبات سخيّة من يد دولةٍ مزعومةٍ هي ليبيا، من خلال تعيين والدي الفقيد مديراً لناحية أوباري عقب الاستقلال، كأنّ الأب نال بهذه الحسنة امتيازاً لا يستحقّه، ولا يدري الشقيّ أن هذا الانسان البطل، الذي يجهل حقيقته، تنازل لقبول هذه الوظيفة مجبراً، لأن تجربته كانت الذخيرة الحقيقية التي صنعت لليبيا استقلالها، وهو الذي نزف بجراح الواجب في معركتين شهيرتين عندما اشترك في صدّ الغزو الإيطالي عن الدواخل، هما: «معركة وادي الثلث»، ومعركة «وادي مرسيط»، في رحاب «الحمادة الحمراء»، وهما موثّقَتان في إرشيف مركز الدراسات التاريخية (الجهاد الليبي سابقاً)، حيث أقرّت لجنة فرز من شاركوا في مقاومة الغزو بمرسومٍ يرجع إلى العهد الملكي، واقعة مشاركة السيّد الكوني بلكاني موسى قائداً حربيّاً برتبة ضابط، كما ورد في حيثيّات جلسات اللجنة 1964م
ولكن الوالد لم يشترِ بهذا النزيف المناصب بعد الإستقلال، ولكنه امتشق سلاحه القديم ليشارك في مقاومة الفرنسيين عند اندلاع الثورة الجزائرية، وقيامه بتهريب الأسلحة القادمة من مصر إلى قادة الثورة عبر الصحراء، ملحمة معروفة، ليجني من وراء هذا الواجب غضبة فرنسا، التي قطعت الصحاري الواقعة بين البلدين بحثاً عنه، إلى الحدّ الذي قامت فيه بقصف ضاحية «سايَّن» قرب غات، في وقتٍ كانت فيه فزّان كلّها مازالت تحت سلطة فرنسا حتى نهاية الخمسينيات، ولم تجد الدولة الليبية الوليدة وسيلة لحماية الأبّ من عملاء فرنسا في المنطقة سوى إقناعه بقبول منصب رمزيّ، يستنزل في نشاطه الانتماء إلى هوية الدولة الرسميّة. فهل استمرأ هذا الطّيف البرّي، ما يسمّيه مريد الغنيمة «التنفّذ»، ظنّاً منه أن الكلّ يعتنقون دين ذات الإفيون الذي يعتنقه هو؟
كلّا بالطبع!
لقد أخذني من يدي، عندما كنتُ أقيم في خاصرة قلعة «قارّة» بسبها، كي يطوف بي ليبيا كلّها طلباً لاستقالته من هذا القيد، وهو المفطور على الحريّة، المهدّدة بسبب الإنتماء إلى جهاز، الكلّ في يقينه عبيد. وكان المسئولون يرفضون الموافقة على منحه إذن التحرير، لسببٍ بسيط هو أنهم لا يملكون هذه الصلاحية في حقّ زعماء القبائل، الذين كانوا في العرف آنذاك بمثابة «الآباء المؤسسين» للدولة الليبيّة. فبعد سبها حللنا بطرابلس، لأزور بصحبته الحاضرة لأوّل مرة، ثمّ غادرنا بعد فشل محادثاته مع المسئولين هناك، ونزلنا رحاب منارة الأجيال «قورينا»حيث تلتئم رئاسة الوزراء في «البيضاء» كمقرّ صيفي، ليخفق الأب في انتزاع حريّته هنا أيضاً، لنغادر إلى طبرق. هناك فقط، في قصر الخُلد العامر، استطاع الأب أن ينتزع وثيقة خلاصه، بأمرٍ من الملك إدريس السنوسي نفسه، لأنه الوحيد الذي يملك الحقّ في الفصل في كلّ ما متّ بصلة لزعماء القبائل، ليحقّق هذا المهاجر الأبدي حلم تحرير ما بالنفس، بعد أن حقّق للوطن تحرير ما بالواقع، ليفرّ لفردوسه: الصحراء!
كان هذا التصرّف بمقاييس واقع تلك الأيام تهوّراً، أمّا في أيّامنا، حيث تهيمن ملّة العدم، فهو جنون، لأن غاية الوجود اليوم هو اقتراف الجرائم في سبيل الفوز بالمناصب، مقابل نزعة أخيار الأمس، الذين لقّنوا جيلنا دروس الزهد في حُطام الدنيا.
وهو موقفٌ حكيم، يترجم لنا العقلية البريّة العبقريّة في شأن الخلط بين مفهومين مختلفين هما الدولة والوطن. الدولة التي لا تستحي أن تلعب دور العار في حقّ أنقى قيمة في الوجود وهي: الوطن، محاولةً أن تحتال على الأخيار عندما تتنكّر بقناع الوطن، أو تستعير سيماء هذا المعبود، لتقنع الأبرياء بحقّها في الإنتساب إلى هذا الحرم. وليس عبثاً أن الفئة التي تعبد صنماً مخزياً كالغنيمة إنّما تستخدم الوطن كشفيع في تمرير مؤامراتها. الصحراء فقط استطاعت دوماً أن تفضح هذا التلاعب في حقّ المنطق، وفي حقّ وجودٍ هو منطق، عندما استنزلت حظراً في قيام الدولة في ربوع فراديسها الخالدة، لتربّي، بالمقابل نعمة حبّ الوطن في قلوب أبنائها، ولهذا هم أحرار من دون أبناء كل بقاع المسكونة. فالدولة هي الغانية التي تبيح للأراذل أن يستهينوا بالأفاضل، بل ويمارسوا صنوف الإذلال في حقّ الأفاضل، لأن الدولة بالطبيعة صنيعة باطل، خلاف الوطن، الذي لم يكن ليتحول في حياة الأنام هاجس كينونة، لو لم يكن قيمة باطن.
الواقع أن الزهد في السلطة أنّما ورثه الأب من جينات سلفه الزعيم «فنايت موسى»، الذي تخلّى فيه عن زعامة القبائل، بسبب نزاعات القبائل، ليعتزل في صحراء «تارات»، بعد أن كان يتولّى أمر القبائل، إثر انهيار حكم سلطنة آزجر المستقلّة بفعل الحروب مع السلطات العثمانيّة في نهايات القرن التاسع عشر، ليجد أهل الصحراء أنفسهم محاصرين بين مقاومة الاستعمار الفرنسي من الغرب والجنوب، ومقاومة الأطماع العثمانيّة في بسط نفوذها على عمق الصحراء، تحديداً محاولة السيطرة على أكثر الواحات استراتيجيّةً هناك وهي «غات»،التي كانت معقل الزعيم «أخنوخن» في بطولاته ضدّ الحملات الفرنسيّة، علّ أشهرها حملة الجنرال «فلاتيير»، كما ترد في الحوليّات التاريخيّة، التي مُنيت فيها فرنسا بهزيمة مدوّية، ليرث الزعامة بعد أخنوخن «انقدّازَن»، ثمّ «فنايت موسى»، عمّ الوالد. الوالد الذي لا يستحي إبن ملّة العدم أن يتطاول في حقّه، عندما يقول أن الدولة الليبية أحسنت إليه عندما قلّدته وظيفة «متنفّذة» في بداية عهدها بالإستقلال، الذي لم يكن ليتحقّق لو لم يحققه لها أمثال الحاج الكوني بلكاني بنزيفه في معارك موثّقة سواء ضدّ الطليان في الشمال، أم ضدّ الفرنسيين في الجنوب، ليكون هو مَن قدَّمَ الاستقلال لليبيا، لا على سبيل الإهداء، ولكن ليقينه بأنّه يؤدّي صلاةً ورثها سلفاً عن خلف، وهي أداء الواجب، لا نحو الأوطان وحدها، ولكن نحو ذخيرة الأوطان، التي لن تكون سوى أبناء الأوطان، ليقبل تنكّب مسئولية أخلاقيّة، بعد الاستقلال، هي الأخذ بيد أبناء الوطن، الذين لم يبخل بدفع المكوس كي يحيوا في ربوعهم السمِحة أحراراً، ولكنه لم يتردّد في أن يقاتل في سبيل التحرر من وزر هذه المسئولية، عندما فوجيء بما كان منكراً في يقينه، وهو الفساد السياسي والمالي والأخلاقي، الذي بدأ يفترس وجدان الدولة البكر، استجابةً لطبيعة كريهة في مسلك الجنس البشري، وهي تنامي داء الجشع، ما أن يستقرّ الأمر بأية سلطة، ليسري في شرايين المؤسسات الناشئة، ليصيب علاقة المواطن بأخيه المواطن بالخلل، ليستشري المرض، مما دفع الملك الزاهد إدريس السنوسي أن يصدر بيانه الشهير مطلع الستينيات، يستنكر فيه البليّة، ويعلن رغبته في التخلّي عن العرش.
والسبب؟
السبب دوماً في الفئة المتطفّلة على الوضع، التي لم تشارك في تحرير الوطن، ولم تسفح حبة عرق، فكيف بنزيف الدمّ، في سبيل قيام دولة اغتربت عن الواقع ألوف الأعوام، فأقبلت هذه الفئة عندما استوى الأمر، بفضل الأبطال الحقيقيين، لتجني الأرباح، لا بعرق الجبين، ولكن بسلطة عملة مزوّرة هي: الخداع، كما حدث ويحدث منذ اغتربت القبيلة البشرية عن حقيقتها الروحية، المترجمة في حرف الرحيل الأبدي، لتنقسم شقّين ما لبث أن استحالا طينتين، تحوّلتا تالياً، طبيعتين مختلفتين، من المنطقي أن تنقلبا، بهذه القطيعة، إلى ضدّين، هما: قبيلة تشبّثت بالحرية، فواصلت هجرتها القدسية، وقبيلة استسلمت للأرض، فاستقرّت، ليدفعها الإستقرار إلى ضرورة اختراع بعبع الدولة، الذي سرق منها حرّيّتها، وحوّل سلالتها كلّها إلى أقنان!
وكم أتمنّى أن يتجرّد قوم «بنات آوى» من أحقادهم المجّانية، ويتنكّروا ولو مرّة لعدميّتهم، لكي يدركوا أن أمثالي لا ينازعون أحداً طلباً لمجد، فكيف بطمعٍ في غنيمةٍ هي باطل أباطيل؟ ولم أكن لأضحّي في مجادلتهم بما كان في ناموس الحكمة أعظم شأناً من كل حطام دنيا، وهو: الوقت، لا تلبيةً لنداء الحقيقة وحسب، ولكن لغايةٍ تنويرية، تكشف عن ما غاب عن أبناء هذا الجيل الضائع، بسبب عقليّة ملّة العدم، التي قمتم بتبنّي حرفها المميت، ليزداد أبناء الجيل اغتراباً عن حقيقتهم الوجودية.
فالتخلّي دوماً موقفٌ بطوليّ. ويشرّفني أنني ورثته عن أسلافي أيضاً، كما توارثوه هم خلفاً عن سلف. وأحسب أن يوم ميلادي كان رهين يوم استقالتي من عملي، والفرار إلى وطن أسطوري حقّاً بمقياس تلك الأزمان، يكفي أنه يقع ما وراء بحر الظلمات، ويفصله عن أوطان العالم ستارٌ حديدي، كالحال مع الإتحاد السوفييتي. ثم كان خلاصي الثاني يوم قطعتُ حبل السرّة مع عملي بمؤسسات الدولة الليبية، بعد أن تكأكأت قوى الشرور لتقبر منبراً ثقافياً ناطقاً بلغة أجنبيّة يُعنَى بالثقافة العربية، في حاضرة الصقالبة (وارسو) لأفرّ إلى الحرية مرة أخرى، لأبعث نفسي من جديد، كما يليق بالعنقاء، من رماد ما وراء الستور الحديدية. وهي العادة التي احترفها أشقّائي أيضاً في شأن العلاقة مع غلٍّ فظيع، إسمه الوظيفة، أو المنصب، الذي يحسن به صاحب ملّة العدم الظنّ، ولا يدري أن سرّ التفوّق إنّما يكمن في مدى قدرتنا على إنكار هذا القيد الخبيث؛ لأن قيمة الإنسان إنّما تكمن في مدى الاستعداد للإستقالة: الإستقالة في بُعدها الكينونيّ، الذي تستعير فيه أبعاداً غيبيّة، سواء أكانت استقالة من منصبٍ هو يقيناً سلطة، أو الاستقالة من علاقةٍ، هي أيضاً سلطة، أو الاستقالة من الوجود برمّته، لأنه حُجّة السلطة. ممّا يعني أن قيمة كلّ منّا، إنّما هي رهينة شجاعتنا في تسفيه السلطة، لأن خصم الحقيقة، في صفقة الوجود، هي السلطة. وعندما نُهين السلطة، برفض السلطة، فتلك شهادة على اعتناقنا لدين الحقيقة. لأن الحرية التي نحقّقها، بالاستقالة من السلطة، ليست مجرد تزكية للصلاة في حرم الحقيقة، ولكن الحرية هنا هي فِدْيَتُنا السخيّة، الجديرة بأن تشفع لنا خطايانا، لارتياد ملكوت الحقيقة؛ لأن فعل الاستقالة هو موقفٌ وجوديّ يعبّر عن التحدّي، لثالوث الشرّ، المخفي في جوف وحش الدولة، المترجم في حرف السياسية والأيديولوجيا والسلطة.