يفرض الاتفاق الأميركي الإيراني المحتمل والمثير للجدل حول البرنامج النووي أسئلة تتعلق بموقع ودور ووظائف إيران المقبلة في الشرق الأوسط. ويفرض الحدث أيضاً أسئلة أخرى بشأن طبيعة تموضع إسرائيل والولايات المتحدة وبعض بلدان المنطقة حيال ما يوفّر الاتفاق الجديد من امتيازات لطهران.
ولئن تكثّف إسرائيل هجماتها ضد أهداف إيرانية في سوريا في الأسابيع الأخيرة، فإن ما هو سياسة أمنية معتمدة منذ عام 2011، أيا كانت طبيعة الحكومة الإسرائيلية ورئيسها، ستستمر وربما على نحو أكثر حدّة وشراسة بعد إبرام الاتفاق. وما الهجمات الأميركية هذه المرة ضد أهداف ميليشياوية إيرانية مؤخراً إلا مؤشر إضافي، أميركي بالذات، يمحض السعي الإسرائيلي الراهن، وخصوصا المقبل، ضد التمدد الإيراني في سوريا دعم واشنطن ورعايتها.
لم تستطع الضغوط الإسرائيلية حتى الآن ثني إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن القبول باتفاق محتمل تعتبره منابر إسرائيل السياسية والعسكرية "كارثة" خطيرة على أمن إسرائيل. بالمقابل نالت تل أبيب تأكيد استمرار واشنطن في ضمان أمن إسرائيل أولاً، وتعهد بايدن بأن بلاده عازمة على منع إيران من اقتناء السلاح النووي ثانياً، وكشفاً غير رسمي، نشر تسريبات عنه موقع بوليتيكو الأميركي، يفيد بتطوير الولايات المتحدة خيارات عسكرية ضد إيران ثالثا.
اتفاق جديد في فيينا سيمنح إسرائيل يدا أطول في استهداف ما تراه خطرا إيرانيا استراتيجيا على أمنها. وإذا ما يُفترض أن يعالج الاتفاق العوامل التقنية لضبط البرنامج النووي ومنع تطوره باتجاه الأهداف العسكرية، لكن الاتفاق، وبسبب رفض المفاوض الإيراني، لم يشمل ملفات برنامج إيران للصواريخ الباليستية وأنشطة طهران المزعزعة للاستقرار في المنطقة. وتكاد واشنطن، التي أسقطت تلك الملفات من مفاوضات فيينا، تلمّح إلى أن معالجة هذه المفاوضات قد لا تتمّ بالمفاوضات وحدها، وأن الحاجة لتدابير عسكرية، أهمها إسرائيلية، ستكون مشروعة وضرورية.
الاتفاق بين واشنطن وطهران يمنح منذ ذلك في فيينا لعام 2005 دورا لروسيا في مسائل إدارة وتصريف فائض اليورانيوم المخصب. والمفارقة تكمن في أن الولايات المتحدة، التي تخوض حربا بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا، تأمن لموسكو في التقيّد الحرفي بتفاصيل الاتفاق والوظيفة الروسية داخله.
والمفارقة الأخرى تكمن في مدى الثقة بروسيا للقيام بمهام محايدة مع إيران تحت سقف الاتفاق، في ظل تقارب الضرورة بين طهران وموسكو وحاجة الأخيرة لمسيّرات إيران في حرب أوكرانيا من جهة، ومنافذها الاقتصادية للالتفاف على العقوبات الغربية القاسية من جهة ثانية. هذا التحول مخصّب بأسئلة حول طبيعة التحول في تماسّ مصالح موسكو وطهران في سوريا ومآلاتها على الموقف من ورشة إسرائيل العسكرية هناك.
وعلى الرغم من وجود توترٍ في علاقة روسيا وإسرائيل (برز في موقف القضاء الروسي من أنشطة الوكالة اليهودية في روسيا)، إلا أن موسكو لم تتّخذ أي خيارات رادعة تحول دون توسّع الضربات العسكرية الإسرائيلية التي ما برحت تستهدف، وعلى نحو أكثر تركيزا وشمولا وإيلاما أهدافا إيرانية في سوريا. لا بل إن الأنباء التي تحدثت عن سحب موسكو منظومة "S-300" من سوريا لإعادة نصبها لصالح حربها في أوكرانيا، لا يمكن إلا أن يكون إجراءً مساعداً مُسهّلاً للغارات الجوية الإسرائيلية التي باتت تجري في الأسابيع الأخيرة من خارج الأجواء السورية.
والأرجح أن نزوع إيران نحو الاستفادة الاقتصادية القصوى من منافع الاتفاق الجديد يفترض أن يدفع طهران لتجنب أي تصعيد قد يجرّ حروبا إليها تستهلك الموارد المالية الجديدة.
كما أن إصرار المفاوض الإيراني على انتزاع ضمانات قد تصل إلى خمس سنوات تقيها شرور أي عقوبات أميركية، يهدف إلى إقناع الشركات الدولية بجدوى الاستثمار في إيران. فالمستثمرون، وإن يحتمل أن تشجعهم بنود الاتفاق، فإنهم لن يدخلوا سوقا مذعورا مهددا قد يسببه أي تصعيد عسكري ضد إيران.
على هذا ستكون سوريا متنفس العنف الوحيد بين إسرائيل وإيران، على الرغم من روحية اتفاق فيينا الجديد.
ستواصل إيران تعزيز نفوذها هناك تحصينا لوضعها المربك في العراق وتحضيرا لأي تسوية دولية إقليمية تأخذ بعين الاعتبار فقط مصالح الحاضرين داخل سوريا، بما في ذلك روسيا وتركيا وأميركا وإسرائيل.
وسترفع الأخيرة من وتيرة وحجم نيرانها ضد ما يمكن أن يعتبر فائض قوة إيراني يهدد أمن إسرائيل أولا ومستقبل "حصتها" السورية مستقبلاً.
ولئن تتشكل أعراض وسمّات تقارب روسي تركي إيراني قد يكون استراتيجيا طويل الأمد لمقاربة العلاقة مع واشنطن، فإنه في ما عدا إيران، فإن المفارقة الخبيثة تكمن في أن كل الأطراف المنخرطة في سوريا على علاقة جيدة مع إسرائيل وحريصة على مصالحها السورية بدون تحفظ، بما في ذلك تفهم حرية أعمالها الحربية ضد الحضور الإيراني في سوريا.