فهل سيختار أعضاء حزب المحافظين، مئة وستين ألفا، السياسية المتمرسة الموالية تراس، أم الثري المتمرد سوناك؟

سِجِل التنافسات الحزبية في بريطانيا يشير إلى أن المتمرد، الذي يثير الفرقة في حزبه ويطيح بزعيمه، أو يتسبب بذلك، لا يحظى بتأييد الناخبين، الذين يقيِّمون الولاء للحزب وقيادته، وفي النهاية يفشل في تولي المنصب الأعلى. مايكل هزلتاين، وزير الدفاع البريطاني في عهد رئيسة الوزراء الراحلة، مارغريت ثاتشر، الذي كانت له شعبية واسعة في حزب المحافظين، وفي البلد ككل، باعتباره خطيبا بارعا ومحافظا معتدلا، لكنه عندما تمرد على رئيسة الوزراء، واستقال من الحكومة، وتصدى لمنافستها على زعامة الحزب، لم ينتخبه الأعضاء، بل فضلوا عليه جون ميجور، الذي ظل مواليا لثاتشر حتى النهاية.

وحصل الشيء نفسه لجون رَد-وود، وزير شؤون ويلز في حكومة جون ميجور، الذي استقال من منصبه كي يتحدى رئيسه، لكنه لم يفُز، حتى بعد استقالة ميجور من زعامة الحزب إثر هزيمته في انتخابات عام 1997، مقابل زعيم حزب العمال، توني بلير. كان ردَ-وود يتمتع بشعبية واسعة بين أعضاء الجناح اليميني في الحزب، وقد تلقى دعما كبيرا من جريدة الصن اليمينية المؤثرة، التي صدرت بعنوان مثير في صفحتها الأولى، يقول (Redwood against Deadwood)، أي (الخشب الأحمر مقابل الخشب الميت) في تلاعبٍ مقصود بمعنى لقب رَد-وود (الخشب الأحمر)، بينما وصفت ميجور بـ(الخشب الميت).

وجريدة الصن هي الأوسع انتشارا والأكثر قراءة بين الصحف الشعبية، (التابلويد)، إذ كانت مبيعاتها تفوق 5 ملايين نسخة يوميا، وقد ساهمت في إبقاء المحافظين في الحكم 18 عاما، بسبب هجومها اللاذع المتواصل على زعيم حزب العمال، نيل كينوك، إذ كانت دائما تحيط رأسه بدائرة حمراء عند نشر صورته، للدلالة على أنه يساري متطرف، علما أنه معتدل.

وقد سعى توني بلير، عندما أصبح زعيما لحزب العمال عام 1994، إلى التفاهم مع مالكها، رُوبرت مردوخ، من أجل إيقاف حملتها المناهضة للحزب.

المتنافسان الحاليان على زعامة حزب المحافظين ورئاسة الوزراء، ليز تراس وريشي سوناك، لا يختلفان في الموالاة والاحتجاج فحسب، وإنما في السياسة الاقتصادية والخلفية الثقافية والخبرة السياسية والاقتصادية والجاذبية الشخصية. تنحدر تراس، البالغة من العمر 47 عاما، من عائلة إنجليزية من مدينة أوكسفورد، وكان أبوها أستاذا في الرياضيات ووالدتها ممرضة، ثم معلمة، وكانا ناشطيْنِ في اليسار البريطاني، وقد وصفتهما ابنتهما ليز بأنهما "إلى اليسار من حزب العمال"!

لكن ليز، خلافا لنهج أبويها اليساري، انتمت أثناء دراستها الاقتصاد والسياسة في جامعة أوكسفورد، إلى حزب اللبراليين الديمقراطيين، الذي يمثل الوسط السياسي في بريطانيا، وأصبحت رئيسة لفرع الحزب في جامعة أوكسفورد. لكنها بعد التخرج، ذهبت خطوة أخرى باتجاه اليمين، فانتمت إلى حزب المحافظين. وعندما رشحت للبرلمان، وافقت أمها، برسيلا، أن تشترك في حملتها الانتخابية وتدعو الناخبين للتصويت لها، لكن أباها، البروفيسور جون تراس، أبى أن يؤيد ابنته في توجهها السياسي المخالف لأعراف العائلة.

سياسة تراس الضريبية منسجمة مع نهج حزب المحافظين التقليدي في خفض الضرائب وتمكين الناس من الاحتفاظ بقدر أكبر من أموالهم، وهي سياسة ينتفع منها الأكثرُ ثراءً، لأنهم يدفعون نسبة أعلى من الضرائب، وهي تقترن دائما بخفض الإنفاق العام على الخدمات، لأن خفض الضرائب يقلص الأموال المتوفرة لدى الحكومة للإنفاق على الخدمات، بينما يرفع معدل التضخم، الذي يتضرر منه الأثرياء أكثر من الفقراء. لكن تراس، المتخصصة في الاقتصاد والمحاسبة الإدارية، تقول، خلافا للنظريات الاقتصادية السائدة، إن خفضها الضرائب، الذي قدَّرته بثلاثين مليار جنيه إسترليني (36 مليار دولار)، لن يقود إلى رفع معدل التضخم، ولا إلى تقليص الإنفاق الحالي على الخدمات! وهذا الرأي لا يقنع المتخصصين، لكن الناخبين يطربون لسماعه.

تراس أكثر خبرة في السياسة والإدارة الحكومية من منافسها سوناك، إذ انتُخِبت نائبا في مجلس العموم عام 2010، وأصبحت وزيرة عام 2014، وتنقلت بين وزارت البيئة والتجارة والعدل والخزانة، وانتهت وزيرة للخارجية، إحدى أهم وزارتين في الحكومة. وتتمتع تراس بشعبية كبيرة بين أعضاء حزب المحافظين، كما أشارت استطلاعات الرأي الأخيرة (49% مقابل 31% لسوناك)، وتعتبر الآن من رموز اليمين في حزب المحافظين، على الرغم من أنها وقفت ضد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، التي يؤيدها اليمين، وصوتت لصالح البقاء، لكنها انسجمت مع سياسة الحكومة بعد استفتاء عام 2016 الذي شرَّع للانسحاب.

المنافس الآخر، ريشي سوناك، البالغ من العمر 42 عاما، يتحدر من أصول هندية أفريقية، وهو متزوج من ابنة الملياردير الهندي، ماريانا ميرثي، مالك شركة (InfoSys) العالمية. ويحتل سوناك وزوجته المرتبة 222 بين أثرياء بريطانيا، وهو السياسي البريطاني الأكثر ثراءً، يليه وزير المالية، العراقي الأصل، ناظم الزهاوي. درس سوناك الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أوكسفورد، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة لإكمال دراسته العليا، ونال شهادة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة ستنافورد في كاليفورنيا، ثم عمل في بنك غولدمان ساكس الأميركي، وحصل على الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة (البطاقة الخضراء).

وبعد عودته إلى بريطانيا، رشح في انتخابات عام 2015 عن حزب المحافظين، وفاز بمقعد نيابي. اختارته تريزا ماي وزيرا في وزارة الحكومة المحلية، وكان متحمسا للانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ساند سوناك بورِس جونسون عند ترشحه لزعامة حزب المحافظين عام 2019، فكافأه بتعيينه وزيرا للخزانة، وهي وزارة ساندة لوزارة المالية، وبعد استقالة وزير المالية، ساجد جاويد عام 2020، احتجاجا على أمر رئيس الوزراء بإقالة مستشاريه، عيّنه جونسِن وزيرا للمالية، وبقي فيها حتى استقالته في 5 يوليو الجاري، احتجاجا على ترقية جونسِن لوزير متَّهم بالتحرش الجنسي، وتضليله الرأي العام البريطاني، بأنه لا يعلم بأنه متهم رسميا بالتحرش، واتضح لاحقا بأنه يعلم.

كان سوناك داعما بقوة لبورِس جونسِن، وكان مشاركا معه في الحفلات المخالفة لقانون الإغلاق، وقد تلقى غرامة من الشرطة، إلى جانب جونسِن، لكن استقالته الأخيرة قد جاءت على الأرجح بسبب إدراكه أن جونسِن قد ضعُف كثيرا وأن هناك رأيا عاما مناهضا له، فانتهزها فرصة للانقضاض عليه والحلول محله. وهذا ما يدينه كثيرون في حزب المحافظين، ويعتبرونه انتهازية لأجل مصلحة شخصية، على حساب المصلحة العامة.

وكان سوناك قد اتفق، على ما يبدو مع ساجد جاويد، على الاستقالة معا، كي يطيحا بجونسِون، وقد نجحا فيما خططا له. جاويد انسحب من المنافسة لأنه لم يحصل على تأييد 20 نائبا، كما تقتضي قواعد المنافسة، كما انسحب مرشحون آخرون للسبب نفسه. معظم المرشحين لزعامة حزب المحافظين هذه المرة من أصول غير بريطانية، من الهند وباكستان ودول إفريقية، وهذه ظاهرة جديدة، إذ إن معظم المهاجرين، لا يؤيدون حزب المحافظين في العادة، لكن تغيرا جذريا حدث في المجتمع البريطاني خلال العقود الثلاثة المنصرمة، إذ انتقل العديد من المهاجرين من الطبقة العاملة إلى الوسطى أو العليا، الأمر الذي حتَّم عليهم تغيير وجهتهم السياسية حسبما تقتضي مصالحهم.

يختلف سوناك مع تراس في السياسة الاقتصادية، إذ يرى أن من غير المناسب حاليا تخفيض الضرائب لأن ذلك سيؤدي إلى استفحال التضخم، الذي يزحف نحو 10%، وقد يبلغ 12% بنهاية العام حسب التنبؤات. كما يتمسك بسياسته المالية السابقة برفع الضرائب، وبالتحديد مساهمات التأمين الوطني، التي تشمل العاملين جميعا، أثرياء وفقراء على حد سواء، والتي عارضتها تراس حينها وتعد الآن بإلغائها.

وينتقد سوناك موقف تراس السابق، المؤيد لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وينتقص منها أنها كانت في صباها عضوا في حزب الديمقراطيين اللبيرالي. لكن مثل هذه المواقف الشخصية، لا تجد تأييدا في حزب المحافظين أو بين الشعب البريطاني بشكل عام، بل اعتبرها كثيرون ثأرية وغير أخلاقية.

تفوَّق سوناك على تراس بين النواب المحافظين، إذ حصل على أصوات 137 نائبا، مقابل 113 لتراس، لكنها على الأكثر ستتفوق عليه في استفتاء أعضاء الحزب، وهؤلاء، وليس غيرهم، من ينتخبون زعيم الحزب، ما يعني أنها مرجحة للفوز بزعامة الحزب ورئاسة الوزراء. محافظون كثيرون يفضلون أن تتزعم الحزبَ امرأةٌ في هذه المرحلة، أولا لأنها تستقطب أصوات النساء، اللائي يصوتن في الغالب لحزب المحافظين، وثانيا لأن زعيم المعارضة، السير كيير ستارمر، لن يستطيع أن يهاجمها بالقوة التي أظهرها مع بورِس جونسِون.

إن فازت تراس، فستكون المرأة الثالثة التي تتولى قيادة الدولة البريطانية خلال أربعة عقود، بعد مارغريت ثاتشر وتريزا مَايْ. لكن حزب العمال يتفوق على المحافظين أنه يشترط أن يكون نصف مرشحيه من النساء، في المقاعد التي يفوز فيها، وقد أكسبته هذه السياسة أصواتا كثيرة وموقفا معنويا أعلى، وساعدته في الفوز عام 1997.

وأيا كان الفائز في الخامس من سبتمبر المقبل، وهو موعد إعلان النتائج، فإن كلا المرشحيْن سوف يشتركان في الحكومة المقبلة لأنهما يتمتعان بتأييد واسع داخل الحزب. فإن فاز سوناك فإن تراس ستبقى وزيرة للخارجية الأرجح. ولكن، إن فازت تراس، فإنها لن تستطيع أن تعيد سوناك إلى وزارة المالية، لأنهما يختلفان اختلافا واضحا في السياسة الاقتصادية، لكنها ربما تجعله نائبا لرئيس الوزراء، كما فعلت تاتشر مع منافسيّْها، وليام وايتلو عام 1979، وجفري هاو عام 1989، وكما فعل جون ميجور مع مايكل هزلتاين عام 1990. وهذا المنصب رمزي، وسوف تسند إلى شاغله حقيبة وزارية غير رئيسية.

لن تختلف السياسة العامة لحزب المحافظين في ظل الزعامة المقبلة، خصوصا السياسة الخارجية التي قلما يختلف الحزبان الرئيسيان عليها. الموقف المساند لأوكرانيا سوف يتواصل، كما ستسمر العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة. غير أن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ستبقى صعبة، خصوصا مع وجود بروتوكول آيرلندا الشمالية المثير للجدل داخل بريطانيا، إذ يصعب التوصل إلى صيغة مقبولة لطرفي النزاع في آيرلندا الشمالية، والأيرلنديين الجنوبيين والبريطانيين والأوروبيين.

الأزمة السياسية الحالية اندلعت بسبب السلوك غير المألوف لبورِس جونسون، الذي ضلل الرأي العام واستهان بالقوانين. ومشكلة جونسون لن تنتهي باستقالته، إذ سيواجه استجوابا برلمانيا، وقد تحظر لجنة الامتيازات توليه أيَّ منصب رسمي مستقبلا، ما يعني أنه سيتخلى حتى عن مقعده النيابي ويغادر العمل السياسي كليا. لذلك فإن الحكومة المقبلة سوف تركز على التمسك بمبادئ الصراحة والنزاهة والشفافية، كي تخلص الحزب من شبهات الفساد والخداع، التي لصقت به في عهد جونسِن.

ستواجه الحكومة الجديدة مشكلتي التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة المتداخلتين، وهاتان المشكلتان لا يمكن معالجتهما داخليا، لأن مصدرهما خارجي، وهو أزمة ارتفاع أسعار الطاقة، الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، التي فاقمت التباطؤ الاقتصادي الذي سببته جائحة كورونا. إن لم تتمكن الدول الغربية من حل أزمة الطاقة خلال فترة قصيرة، فإن التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة سيبقيان طويلا، وقد يؤديان إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.