كثيرون في مجتمعاتنا يعتقدون بأن ارتفاع سعر العملة في أي بلد هو دليل على رصانة الاقتصاد وثراء البلد وقوة الدولة، وكثيرا ما نسمع بعضهم يتفاخر بأن الدينار أو الجنيه أو الدرهم أو الريال في عهود سالفة كان أقوى من الين والجنيه الإسترليني والدولار.
لكن الحقيقة أعقد كثيرا من هذا التبسيط، فارتفاع سعر العملة له مضار عديدة، منها أنه يدفع المستهلكين لشراء المنتجات الأجنبية لأنها ستكون رخيصة الثمن، ويكون ذلك على حساب المنتجات الوطنية المماثلة. كما يقلص من السياحة والاستثمار الأجنبي في البلد بسبب ارتفاع التكاليف.
لذلك تسعى الحكومات لتخفيض أسعار عملاتها كي تكتسب ميزة اقتصادية على منافسيها، خصوصا الدول التي تشكل الصادرات أو الخدمات السياحية نسبة كبيرة من دخلها الوطني، والتي تتنافس فيها مع دول أخرى. اليابان مثلا أنفقت مليارات الدولارات عام 2011 من أجل تخفيض سعر الين كي ترفع تنافسية صادراتها، بحيث تكون أقل كلفة من صادرات منافسيها، وتساعد على تحفيز النمو الاقتصادي.
العراق أيضا أقدم عام 2020 على تخفيض قيمة الدينار بنسبة 20%، ولكن لأسباب تتعلق بخواء خزينة الدولة، واضطرار الحكومة لتمويل رواتب الموظفين والمتقاعدين الذين تجاوز عددهم 7 ملايين، لكن هذا التخفيض سيساهم مستقبلا في تحفيز الإنتاج الوطني، خصوصا وأن العراق يستورد كل شيء تقريبا، منذ أن أصبح النفط يشكل الإيراد الوحيد للدولة أواسط السبعينيات.
ولكن ماذا عن أميركا التي يهرع العالم لاقتناء عملتها في الأزمات، باعتبارها "مخزنا للقيمة"، والعملة التي يمكن الوثوق برصانتها مهما حصل في العالم؟
يرتفع سعر الدولار أحيانا كثيرة، ليس لأسباب داخلية تتعلق بقوة الاقتصاد الأميركي، وإنما بسبب اللجوء الاضطراري إليه من قبل الدول والشركات والأفراد في العالم. وفي أحيان كثيرة، تجهل الولايات المتحدة مصير مئات المليارات من الدولارات، لأنها منتشرة في البنوك الدولية وفي جيوب الأفراد أو خزائن الشركات والمتاجر حول العالم.
بعض الدول مثل كوستاريكا، والأكوادور، والسلفادور، وزمبابوي لفترة معينة، ألغت عملاتها الوطنية واستخدمت الدولار كعملة بديلة، وهناك على الأقل 65 دولة تستخدم الدولار كعملة موازية لعملتها الوطنية. وحتى كوبا الشيوعية المعادية للولايات المتحدة، أطلقت عملة جديدة عام 1994، (CUC)، ربطتها بالدولار الأميركي، بعد أن انهار اقتصادها بسبب توقف الدعم السوفياتي لها.
كل هذا الاستخدام العالمي للدولار، والاعتماد عليه كمخزن للثروة، إضافة إلى قوة الاقتصاد الأميركي وثقة العالم به، وقوة الولايات المتحدة كدولة عظمى، تؤدي إلى زيادة الطلب عليه، وبالنتيجة رفع سعره، خصوصا أثناء الأزمات الاقتصادية والسياسية.
والسؤال المهم هل تستفيد الولايات المتحدة من ارتفاع سعر العملة دائما، أم أنها تتضرر أحيانا؟ لا شك أن استقرار العملة ورصانة الاقتصاد مهمّان جدا، خصوصا في هذا العصر الذي تتفاعل فيه شعوب العالم مع بعضها أكثر من أي وقت مضى، ومن هذه الناحية فإن الثقة العالمية بالعملة الأميركية تعزّز الاقتصاد الأميركي وتكسبه قوة.
لكن الولايات المتحدة بلد شاسع وثري ومنتج وفيه فرص اقتصادية كثيرة، وهو يعتمد في جزء كبير من إيراداته على الصادرات الصناعية المتطورة، والمنتجات الزراعية والمواد الأولية المصنعة، إضافة إلى السياحة والتعليم والطبابة، لذلك فإن ارتفاع سعر الدولار يجعل الصادرات الأميركية مرتفعة الثمن، خصوصا تلك التي تنتجها، أو تنتج بدائلَها، دول أخرى كاليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا. كما يقلص نشاطات السياحة والدراسة والطبابة في أميركا، بسبب ارتفاع تكاليف السفر والإقامة والأجور، خصوصا مع توفر البدائل الأقل كلفة.
في الأشهر الأخيرة انخفضت قيمة العملات العالمية الرئيسية أمام الدولار الذي بلغ أعلى ارتفاع له منذ 20 عاما، نتيجة الأزمة الروسية الأوكرانية، التي تسببت في رفع أسعار الطاقة العالمية، ومعها أسعار المواد الأخرى كلِّها. الجنيه الإسترليني مثلا خسر 15% من قيمته أمام الدولار، بينما انخفض سعر اليورو بنسبة 16%، والين بنسبة 23%، وقد تستمر هذه الوتيرة إن استمر ارتفاع سعر الدولار، أو تضطر الدول الأخرى إلى رفع أسعار الفائدة لتعزيز أسعار عملاتها، إن شعرت بفداحة الضرر الذي سيلحق بها. اليابان مثلا لم تتخذ أي إجراء حتى الآن لدعم عملتها، لأنها ترى أن هذا الانخفاض سيعزز من قدراتها التصديرية التي تدنت كثيرا خلال الفترة الماضية.
ارتفاع سعر الدولار خلق صعوباتٍ ماليةً في بلدان كثيرة، خصوصا المدينةَ منها، إذ عادة ما تكون الديون بالدولار، فإنْ ارتفع سعره، فإنَّ عبء الديون سوف يرتفع بمعدل ارتفاع الدولار نفسِه، أو أكثر أحيانا، فلو كانت دولة ما مدينةً بمئة مليار دولار، على سبيل المثال، وقد ارتفع سعر الدولار بنسبة 20% مقابل عملتِها، فإن قيمة ديونِها سوف ترتفع إلى ما قيمتُه 120 مليار دولار في قياسات عملتها المحلية قبل الارتفاع. ومثل هذه الزيادة في الديون قد تجعل بعض الدول، خصوصا الفقيرةَ منها، عاجزةً عن تسديدِها، وسيكون ذلك مضرّا بفرص تطورِها، خصوصا إذا كانت الديون سيادية، فسمعةُ الدولة الائتمانية سوف تتضرر، ولن تستطيع أن تحصل على قروض ميسرة من الأسواق المالية العالمية.
وعندما ترتفع أسعارُ البضائع والسلع والخدمات لأي سبب، فإن البنوك المركزية تلجأ عادة إلى رفع أسعار الفائدة بهدف كبح معدل التضخم، عبر إضعاف قدرة المستهلكين على الإنفاق من خلال تقليص الأموال المتاحة لديهم. معظم المستهلكين مكبّلون بقروض لشراء منازلهم أو سياراتهم أو لدفع أجور دراستهم أو لأي سبب آخر، وسوف تستهلك خدمة القروض أموالهم، وعندما تشح الأموال المتوفرة للإنفاق لدى الأفراد، فإن التنافس على الشراء يتقلص وعندها تنخفض الأسعار عموما، إن لم تكن هناك مؤثراتٌ أخرى.
لكن ارتفاعَ أسعار الفائدة له أضرار جانبية، خصوصا إن استمر لفترة طويلة، فهو يرفع كلفةَ الديون، الأمر الذي يضع مزيدا من الأعباء على الدول الفقيرة المكبَّلة بالديون السيادية. كما أنه يقلص الأموال المتوفرة للإنفاق على السلع والبضائع والخدمات، خصوصا بين المستهلكين المَدينين، وهؤلاء هم غالبية الناس العاديين في المجتمعات العصرية.
ولأن ارتفاع سعر الفائدة يوفر إيرادا مجزيا على المدَّخرات، فإنه يجعل المدخرين يترددون في الإنفاق، ويجعل الاقتراض مكلِّفا، ما يدفع إلى التردد في الاستثمار في المشاريع الجديدة، بسبب قلة المردود المادي المتأتي منها، الأمر الذي يقود إلى الكساد وارتفاع البطالة.
كانت جائحة كورونا عامي 2020/2021، قد تسببت برفع أسعار العديد من المواد بسبب تدني الإنتاج وانحسار النشاطات كافة نتيجة لفرض الإغلاق التام في معظم البلدان، ومازال مستمرا في كثير من المدن الصينية، وقد تسبب الإغلاق في خلق مشاكل معقدة في عرض السلع والبضائع والخدمات، الأمر الذي ضغط على الأسعار ودفع دولا كثيرة، بينها الولايات المتحدة، لرفع أسعار الفائدة لكبح التضخم.
لكن الذي فاقم المشكلة هو الأزمة الأوكرانية، التي أحدثت ارتفاعا في أسعار المواد كافة، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة التي تدخل في إنتاج كل شيء، ما دفع معدل التضخم إلى الصعود في معظم البلدان العالم. وحتى الصين التي حافظت الأسعار فيها على تدرج معتدل في الارتفاع، فقد بدأ معدل التضخم يرتفع فيها، إذ بلغ الشهر الماضي 2.5%، حسب الإعلانات الرسمية.
لكن الأمر مختلف في الولايات المتحدة، فارتفاع سعر الدولار مقابل العملات الأجنبية قد أدى إلى خفض أسعار الواردات الأميركية من الدول الأخرى، الأمر الذي خفف الضغط على الأسعار، وقلص الحاجة إلى رفع أسعار الفائدة لكبح معدل التضخم، الذي مازال مرتفعا، لكنه كان سيرتفع أكثر لولا هذه الميزة.
لكن هذا لا يأتي دون ثمن. فالاعتماد على الواردات الرخيصة يحدِث خللا في الميزان التجاري بين الولايات المتحدة والدول المصدرة لها، لأن الدول الأخرى تتردد في شراء البضائع والسلع الأميركية المرتفعة الثمن، خصوصا مع توفر البدائل الأدنى سعرا، ما يدفع المصنعين الأميركيين إلى الانتقال خارج البلاد والبحث عن أماكن أقل كلفة للإنتاج، الأمر الذي يؤدي إلى تسريح العمال الأميركيين وتفاقم البطالة.
العجز في الميزان التجاري الأميركي تجاوز في السنوات الأخيرة ترليون دولار، ومعظمه مع الصين، وقد دفع الإدارات الأميركية إلى فرض المزيد من التعرفات الجمركية على البضائع الأجنبية، لكن هذا الإجراء هو الآخر لا يأتي دون ثمن. فالدول التي تتعرض صادراتها إلى تعرفات إضافية، تواجه هذه الإجراء بإجراء مماثل، وتفرض تعرفاتٍ، بمستويات مماثلة، على البضائع والسلع الأميركية، الأمر الذي يقلص من تنافسيتها.
إنها فعلا حلقة مفرغة، فارتفاع معدل التضخم يقلص الأموال المتوفرة للإنفاق عند المستهلكين، ويثبط عزائم المستثمرين في الاستثمار، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع البطالة وانكماش الاقتصاد وتناقص الثروة وتفاقم المشاكل الاجتماعية والسياسية. ومنذ فبراير/شباط الماضي خفَّض البنك الدولي تنبؤه للنمو الاقتصادي العالمي، ثلاث مرات حتى الآن، ويشير التنبؤ الأخير لعام 2022 إلى أدنى قليلا من 3%.
أسباب التضخم كثيرة، بعضها ينتج عن حيوية الاقتصاد وتقلص البطالة وكثرة الأموال المتوفرة لدى المستهلكين، الذين يقْدمون على الشراء بتزايد مطرد، الأمر الذي يؤدي إلى اختلال التوازن بين العرض والطلب وينتهي بارتفاع الأسعار. لكن أهم أداة لكبحه هي تقليص الأموال المتداولة، عبر رفع أسعار الفائدة وتشجيع الناس على الادخار، الذي يوفر الأموال المطلوبة للاستثمار.
هناك الآن مشكلة حقيقية في الاتحاد الأوروبي، تتمثل بوجود اقتصادات ضعيفة بين أعضائه، مثل إيطاليا واليونان والبرتغال وأيرلندا وقبرص، وهي تعتمد على الدعم الألماني لها، لكن الاقتصاد الألماني هو الآخر وقع تحت مطرقة ارتفاع أسعار الطاقة واحتمال إغلاق روسيا لخط نورد ستريم 1، الذي يمد ألمانيا وأوروبا بالغاز الطبيعي. فإذا ما ضعف الاقتصاد الألماني فإن باقي الاقتصادات الأوروبية الضعيفة ستقع تحت ضغوط شديدة.
إيطاليا تحديدا مهددة، فهي تعتمد بنسبة 90% على واردات الطاقة الروسية، ومدينة بنسبة 150% من ناتجها المحلي الإجمالي، ولأنها ضمن الاتحاد الأوروبي، فإن حكومتها لا تستطيع أن تتخذ إجراءاتٍ منفردةً بخصوص السياسة النقدية. البنك المركزي الأوروبي هو الآخر مقيد اليدين، فهو ابتداءً يحتاج لأن يأخذ في نظر الاعتبار ظروف البلدان المكونة لمنطقة اليورو، ومن ناحية ثانية فإن أي إجراء يتخذه ستكون له عواقب سلبية. فرفع أسعار الفائدة يضع أعباءً جديدة على الديون السيادية للدول المدينة، وإن قرر أن يشتري السندات الحكومية، فيما يعرف في المصطلحات المالية بـ(التسهيل الكمي) فإن هذا الإجراء سيدفع معدل التضخم إلى الارتفاع لأنه سيرفع من كمية النقود المتداوَلة، والذي يؤدي بدوره إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي الذي يقود إلى ارتفاع الأسعار.
خلاصة القول إن الولايات المتحدة مازالت المتحكم الأكبر بالاقتصاد العالمي، عبر قوتها الاقتصادية والعسكرية وتقدمها العلمي، وأن العالم يثق بعملتها ويلجأ إليها عند الشدائد، لكنها لا تستفيد دائما من ارتفاع سعر الدولار، لأنه يقلص من تنافسية صادراتها، ويرفع من عجزها التجاري مع شركائها التجاريين ويدفع الشركات الأميركية والأجنبية إلى المغادرة إلى حيث تكون كلفة الإنتاج منخفضة، الأمر الذي يفاقم البطالة.
في أكتوبر عام 2018، وبمناسبة مرور عشرين عاما على انطلاق اليورو، عُقِد مؤتمر علمي في جامعة ليدن الهولندية، حضره الكاتب، لتقييم وضع اليورو. وكان هناك إجماع بين المتخصصين وخبراء المال بأن اليورو لن يكون بديلا أو مكافئا للدولار كعملة عالمية لثلاثين عاما أخرى على الأقل. فاليورو الذي أنشأه الاتحاد الأوروبي عام 1999، لن يستطيع أن يكتسب القوة والثقة العالمية التي حققها الدولار، الذي مضى على تأسيسه 230 عاما، خصوصا وأن الاتحاد الأوروبي مشكل من 27 دولة مستقلة. ستبقى الولايات المتحدة الاقتصاد الأقوى في العالم على الأمد المنظور، وستبقى المتحكم الأقوى بالنظام المالي العالمي، والمهيمن على المؤسسات المالية الدولية، وقد ساهمت الأحداث والاستقطابات الدولية الأخيرة في تعزيز قدراتها وتوطيد تحالفاتها، التي كانت قد ضعفت خلال العقد المنصرم نتيجة للسياسات الانعزالية التي مارستها بعض الإدارات الأميركية.