كشفت استقالة رئيس الوزراء بوريس جونسون من زعامة حزب المحافظين وبالتالي رئاسة الحكومة عن مدى التراجع الذي شهدته الساحة السياسية في أعرق الديمقراطيات الغربية.
ومنذ الأسبوع الماضي، حتى قبل أن يعلن الطامحون لخلافة جونسون عن ترشحهم لانتخابات زعامة الحزب الحاكم، بدأت التسريبات والتسريبات المضادة والنبش في ماضي كل المتنافسين.
ليس من المستغرب أن يكون الحال في بريطانيا، بالنسبة للجمهور العام، أقرب لوصف القول الشائع "في اختلافهم رحمة"، غير أنه في تنافس هؤلاء السياسيين فرصة للكشف، او إعادة التذكير بأفعالهم السابقة التي كانوا يفضلون "كنسها تحت السجادة".
أغلب ما يتم تداوله الآن في الإعلام ربما لا يستهدف الصالح العام ولا هي نوبة صحو يعود فيها الإعلام لتوعية الناس وتبني الشفافية المطلقة بقدر ما هي حملات وحملات مضادة من المرشحين للنيل من منافسيهم، لكن مع ذلك، تظل تلك فرصة لكشف المستور أو ما كادت الجماهير أن تنساه.
على سبيل المثال، ربما نسي الجمهور فضيحة مصروفات النواب التي كشف عنها النقاب في 2009 ولا يتذكرون كم المرشحين لانتخابات حزب المحافظين لخلافة جونسون ممن كانوا على قوائم النواب الذين زوروا مصروفاتهم ليختسلوا أموال دافعي الضرائب الذين يفترض أنهم يمثلونهم في مجلس العموم.
وإذا كان عام 2009 يبدو بعيدا في عصر وفرة المعلومات وطوفان الأحداث التي لا يكاد يستوعبها الجمهور العام من كثرتها، فإن عام 2017 ليس ببعيد.
ذلك هو العام الذي طردت فيه وزيرة الداخلية الحالية بريتي باتيل من حكومة تيريزا ماي لانتهاكها مدونة السلوك الوظيفي بشكل فج، ليس هذا فحسب، بل إنها كادت تتعرض للتحقيقات أكثر من مرة في العامين الأخيرين بسبب تنمرها على كبار مسؤولي الوزارة لولا دعم جونسون لها في تجاوزها للقواعد والأصول.
وزير الخزانة، العراقي الكردي الأصل ناظم زهاوي تعهد بالكشف عن سجلاته الضريبية مطالبا المرشحين الآخرين بأن يفعلوا الشيء نفسه، وذلك بعد الأنباء عن تحقيق مصلحة الضرائب في احتمال تهربه من دفع الضرائب.
واعتبر زهاوي أن تلك حملة مغرضة لاغتياله سياسيا بسبب منافسته على رئاسة الحزب.
مع ذلك لم نشهد تركيزا اعلاميا على ما ارتكبه وزير النقل جرانت شابس من تزوير إقرارت الذمة المالية التي يقدمها للبرلمان باستخدامه أسماء وهمية للتربح من نشاطات وهو في منصبه السياسي.
وربما لا يكون شابس متفردا في ذلك، لكن تجاوزاته تلك كانت من أهم ميزاته في علاقته القوية بجونسون.
وما زالت مشاكل وزير الخزانة المستقيل ريشي سوناك حاضرة لأنها كانت حديث الإعلام في وقت سابق من هذا العام.
فمع بداية تعقد أزمة جونسون وزيادة احتمالات أن يقصيه الحزب الحاكم بسبب فضائح حفلات مقر الحكومة أثناء الإغلاق بسبب كورونا، كان نجم سوناك الأقوى ليخلف جونسون.
وقتها تسربت للإعلام معلومة أن زوجة سوناك تحتفظ بوضع غير المقيم ضريبيا لتتفادى دفع ضرائب على أرباح أعمالها في الخارج، ثم إن سوناك كان مشاركا أيضا في حفلات مقر الحكومة التي انتهكت قوانين الحظر وتم تغريمه من الشرطة مثل جونسون.
صحيح أن انتخابات رئاسة الحزب تتم من قبل نواب الحزب في البرلمان ثم أعضاء الحزب، أي أنها تعني بضع مئات الآلاف من البريطانيين، لكن نتيجة تصويتهم ستؤثر في حياة عشرات ملايين البريطانيين، وهي فرصة أيضا ليطلع جمهور الناخبين على فضائح وانتهاكات السياسيين وتجاوزهم للقواعد والأصول وشبهات الفساد المالي لأغلبهم.
قد لا تؤثر تلك الحملات على تصويت نواب المحافظين وأعضاء الحزب لانتخاب زعيمهم الجديد ورئيس الحكومة، لكنها بالتأكيد تنال من حظوظ الحزب في الانتخابات العامة القادمة بعد نحو عامين.
ولعل المستفيد الأكبر من تسريبات وحملات تلك الانتخابات هو حزب العمال المعارض وكذلك حزب الديموقراطيين الأحرار.
لكن التراجع الذي ساد الحياة السياسية البريطانية في السنوات الأخيرة ربما لا يجعل حزبي المعارضة يستفيدون تماما من تلك الحملات التي تنشر غسيل المحافظين.
فحزب العمال، المعارض الرئيسي، ليس في وضع يجعله يفوز بأغلبية تسمح له بتشكيل حكومة – حتى مع احتمال خسارة المحافظين-، فالأرجح أن الديمقراطيين الأحرار سيقتنصون عددا من مقاعد المحافظين لتكون النتيجة "برلمانا معلقا"، بمعنى عدم قدرة أي حزب على تشكيل الحكومة منفردا.
نعم، في انتخاباتهم فرصة لكشف المستور لكنها في الوقت نفسه إضافة للأزمة الحقيقية في السياسة البريطانية، وخاصة لحزب المحافظين.
كان خروج جونسون بسبب سلوكه الشخصي الذي كشف كيف أن الحزب الذي يستند في شعبيته على أنه حزب احترام القانون والقواعد والأصول ليس كذلك، وأن الفساد والمحسوبية هو الخطر الحقيقي على الديمقراطية البريطانية التي تعد نموذجا للديمقراطية الغربية عموما.