أخيرا استقال بوريس جونسون، بعد أن أصر لعدة أسابيع على تمسكه بمنصبه، متذرعا بأنه وصل إلى المنصب عبر تفويضٍ جماهيري واسع، وأنه لن يخذلَ ناخبيه الذين وثقوا به وكلفوه بإدارة البلد لخمسِ سنوات.
لكنه رضخ بعد أن بلغ عدد المستقيلين من حكومته الستين وزيرا ومسؤولا كبيرا، واشتدت مطالبةُ نوابِ حزب المحافظين بضرورة استقالته بعد أن أصبح عبئا على الحزب والدولة، إثر الفضائح المتتالية المتعلقة بتضليل البرلمان والشعب حول قضايا عديدة، من إقامة الحفلات المحظورة أثناء الإغلاق، إلى تعيينه وزيرا تراكمت عليه الشكاوى بسبب سلوكه الأخلاقي المشين.
السؤال الذي يتكرر دائما هو ما سبب تمسك المرء بمنصبه العام، إن كان لا يستطيع أن يؤدي مهامه على أكمل وجه، أو أن هناك اعتراضاتٍ واسعةً على بقائه فيه؟ أليس شغل المنصب العام يهدف إلى خدمة المجتمع؟ فإن كان المرء عاجزا عن الخدمة، أو هكذا يراه الآخرون، فلماذا يتمسك بالمنصب إن لم تكن له فيه مصلحةٌ شخصية؟
المعروف في البلدان الغربية أن شاغل المنصب العام، سواء أكان سياسيا أم إداريا، يسارع لإعلان استقالته بنفسه، قبل أن يطالب بها الآخرون، إن شعر بأنه قصّر في أداء مهامه، أو أنه لم يعد قادرا على أدائها لأي سبب كان، كما فعل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عام 2016، عندما اختار الناخبون البريطانيون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، خلافا لموقفه المطالب بالبقاء فيه.
والحديث هنا عن التمسك بالمناصب التنفيذية العليا حصرا، التي يتولاها مسؤولون منتخبون أو معينون، لكنهم يواجهون صعوبات بسبب الفشل أو القصور، ولا يمكنهم تجاوزها، أو أنهم غير قادرين على أداء المهام المناطة بهم بسبب اعتراضات واسعة على أدائهم، كالذي حصل لرئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، أخيرا.
لا شك أن بوريس (كما يُعرَف في بريطانيا) شخصيةٌ جدلية منذ صباه، فهو يتميز بالجرأة المتناهية وعدم الاكتراث لانطباعات الآخرين عنه، بل لا يكترث للحقيقة، حتى عندما كان صحفيا، إذ فُصل من جريدة التايمز عندما كان مراسلا لها في بروكسل، بعد أن اتضح أن ما ورد في تقريره للجريدة كان مختلقا كليا، ولا أساس له من الصحة. ولو كان مرتكب هذا الفعل صحفيا عاديا، لانتهى مهنيا إلى الأبد.
لكن بوريس، الذي يمتلك علاقات متشعبة ويرتبط بعلاقات وثيقة المتنفذين، وقد درس الأدب في كلية باليول (Balliol)، إحدى الكليات العريقة في جامعة أوكسفورد المرموقة، لم تعدمْه الوسائل للحصول على عمل بديل في الصحافة، إذ انتقل بسهولة للعمل في جريدة الديلي تلغراف، التي كان يرأس تحريرها زميله في الجامعة. وبعدها تولى رئاسة تحرير مجلة (سبكتيتور) الشهيرة، وهي أقدم مجلة في العالم، إذ يمتد عمرُها إلى ما يقارب المئتي عام.
طموح بوريس جونسون في الزعامة كان طاغيا منذ الصغر، فقد كان في صغره يحلم بأن يكون "ملك العالم"! وأثناء الدراسة في جامعة أوكسفورد، سعى لأن يكون قائدا طلابيا، وفعلا انتخبه زملاؤه رئيسا لاتحاد الطلبة، وبقي في المنصب حتى مغادرته الجامعة عام 1989. ومن الجدير بالذكر أن معظم الساسة الغربيين يبدأون تجاربهم القيادية في التنظيمات الطلابية في الجامعة.
وفي عام 2001 انتُخِب نائبا في البرلمان البريطاني وأصبح عضوا في حكومة الظل تحت قيادة مايكل هَوَرد ثم ديفيد كاميرون، وبسبب قدرته على الإقناع وتحشيد التأييد لأفكاره، فقد رشحه حزب المحافظين لخوض انتخابات بلدية لندن، وفعلا فاز فيها بجدارة مرتين، لكنه عاد نائبا في البرلمان في انتخابات 2015 وكان عضوا في حكومة ديفيد كاميرون حتى عندما كان رئيسا لبلدية لندن، ما يعني أن قيادة حزب المحافظين والحكومة كانت تسعى لإرضائه طمعا في نفوذه أو خشية منه. وعلى الرغم من خلفية جونسون الأرستقراطية، فإنه تمكن من اكتساب شعبية بين الناس العاديين، خصوصا وأنه يمارس حياته العادية دون حرج، فهو يقود دراجته الهوائية، ويمارس التسوق بنفسه، حتى أثناء توليه مناصبَ عليا، كرئيس لبلدية لندن، أثناء حكومة ديفيد كاميرون، أو وزير للخارجية أثناء رئاسة تريزا مي للحكومة.
يمتلك بوريس قدرات فائقة في الإقناع وتحشيد الجماهير، لكنه لا يكترث للحقيقة، وفي الاستفتاء الذي أجري عام 2016 حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ادعت الحملة التي يقودها "أن بريطانيا سوف توفر 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعيا (500 مليون دولار حينها) عندما تغادر الاتحاد الأوروبي، وأن هذه الأموال سوف تُنفَق على خدمة الصحة العامة". اتضح لاحقا أن هذا الادعاء بعيدٌ عن الحقيقة، لكن القصة أقنعت ملايين الناخبين بالتصويت لمغادرة الاتحاد الأوروبي.
كان بوريس يسعى بقوة لتولي رئاسة الوزراء، وكان قبل الاستفتاء قد قال بأن هناك مصلحة في بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، لكنه غيَّر رأيه بعد أيام قلائل عندما وجد فرصته السانحة للإطاحة بحكومة كاميرون وخلافته في رئاسة الحكومة. وفعلا، نجح الاستفتاء واستقال كاميرون، لكن بوريس لم يخلفْه، إذ رشح ضده صديقه وساعده الأيمن، مايكل غوف، الأمر الذي دفعه إلى الانسحاب من السباق، ففازت به وزيرة الداخلية تريزا ماي، التي جاءت به وزيرا للخارجية كي لا يكون بعيدا عن الحكومة وقد يزعزع أركانها من الخارج. وبعد سنتين في المنصب، استقال بوريس من حكومة مي، مع عدد من الوزراء، احتجاجا على "اتفاقية تشكَرز" (Chequers) للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي دفع تريزا ماي إلى الاستقالة.
اتفق المحافظون على أن يكون بوريس رئيسا للوزراء في عصر بريكسيت باعتباره عرّابا لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفعلا شكَّل الحكومة الجديدة، وبعد أقل من شهرين في رئاسة الوزراء، استعان بوريس بعرف دستوري مهجور منذ 500 عام كي يعلق عمل البرلمان من أجل أن يمرر اتفاقية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي دون التدقيق البرلماني المطلوب. لكن المحكمة العليا اعتبرت التعليق غير دستوري، الأمر الذي أعاد تفعيل البرلمان الذي أقر في النهاية اتفاقية الانسحاب، ولكن مع بعض التعديلات.
برهنت الأحداث أن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان مكلفا، بل ومخلخِلا لاستقرار البلد. أسكوتلندا مثلا جددت بعد الاستفتاء مساعيها للانفصال عن المملكة المتحدة، لأن شعبها صوت للبقاء في الاتحاد الأوروبي. مشكلة أيرلندا الشمالية عادت إلى الواجهة، لأن اتفاقية بريكسيت جعلت المقاطعة ضمن حدود الاتحاد الأوروبي تجاريا، أي أن نقاط التفتيش التجاري للاتحاد الأوروبي، أصبحت عند مداخل أيرلندا الشمالية مع البر البريطاني، والذي يعني أن التبادل التجاري بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية، التي يفترض بأنها جزء منها، يخضع للرقابة التجارية الأوروبية.
المشكلة الأخرى، هي أن اتفاقية الجمعة الحزينة مع جمهورية أيرلندا لعام 1998 بخصوص أيرلندا الشمالية قضت ألا تكون هناك نقاط تفتيش بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا. في السابق لم يكن في هذا الأمر حرج، فكلا البلدين كانا عضوين في الاتحاد الأوروبي، لكن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يقضي بأن تكون هناك نقاط تفتيش، الأمر الذي يغضب الأيرلنديين الشماليين (الجمهوريين) الراغبين بالتقارب مع جمهورية أيرلندا، فأصبح الحل أن تكون نقاط التفتيش عند الحدود البحرية البريطانية، الأمر الذي يزعج الأيرلنديين الشماليين (الملكيين) الذين يسعون بقوة لأن تكون أيرلندا الشمالية جزءا لا يتجزأ من بريطانيا العظمى.
وعلى الرغم من انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكنها مازالت ملزمةً بقوانين الاتحاد وقرارات المحكمة الأوروبية، خصوصا تلك التي أصبحت جزءا من القوانين البريطانية، لذلك لم تستطِع حكومة بوريس أن تسفِّر اللاجئين إلى رواندا، امتثالا لأمر المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي قضت بأن التسفير ينتهك حقوق الإنسان.
تراكمت المشاكل على بريطانيا في ظل زعامة بوريس، ليس بسببه، ولكن الأحداث قادتها بهذا الاتجاه، خصوصا مع اندلاع جائحة كورونا، وانكماش الاقتصاد واستنزاف الخزينة بسبب الإغلاق، ثم تفاقم المشاكل بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي رفعت أسعار الطاقة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، وارتفاع معدل التضخم إلى 9%، ومازال في تصاعد. كذلك ارتفعت كلفة الاقتراض إذ اضطرت الحكومة لرفع أسعار الفائدة بهدف السيطرة على التضخم، لكن هذا الإجراء سيساهم في انكماش الاستثمار في المشاريع الجديدة وإحداث تباطؤ في سوق العقارات وتراجع للتنمية الاقتصادية.
لكن كل هذا لم يؤثر على زعماته، بقدر تأثير الانطباع الذي ترسخ عند البريطانيين بمرور الزمن بأنه غير صريح مع الشعب والبرلمان وأنه وطاقمه الإداري يتصرفون خارج القانون. إن ما أطاح ببوريس هو الشبهات حول نزاته وصدقيته، وتراكم تلك الشبهات التي ترسخت الأسبوع الماضي عندما أصدر مكتبه ثلاثة بيانات متناقضة حول القضية الأخيرة التي دفعت 60 وزيرا ومسؤولا للاستقالة. لكن بوريس تمسك بمنصبه ولم يكترث، رغم أن الامر كان واضحا لمعظم المراقبين بأنه لا يستطيع أن يبقى، فالنزاهة والصدقية صفتان أساسيتان في السياسة البريطانية ويجب أن تتوفرا بقوة في أي شخصية تتولى منصبا رفيعا.
بوريس جونسون، المولود في نيويورك، والذي عاش مع عائلته في بلجيكا لسنين عديدة، بسبب عمل أبيه في المفوضية الأوروبية، فشل أن يفهم أهم المبادئ التي تقوم عليها الحكومة والسياسة والثقافة في بريطانيا، وهما النزاهة والصدقية. قد يكون الخداع والكذب مألوفا في بلدان أخرى، لكنه منبوذ في بريطانيا جملة وتفصيلا. كان بوريس شخصا مغتربا عن الطبائع البريطانية، سواء في السياسة أو السلوك الاجتماعي، فلا يمكن أي مسؤول أن يكذب صراحة ويبقى في منصبه. وزير التجارة والصناعة البريطاني الأسبق، ليون بريتان، سمح بتسريب رسالة من المحامي العام للدولة تشير إلى أخطاء ارتكبها وزير الدفاع، لكنه نفى القيام بذلك، وعندما اتضح بأنه فعلها، استقال فورا. زعيم المعارضة الأسبق نيل كينوك، رد على رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر بأنه (لا يصدِّق بكلامها)، ولأن هذا يتضمن اتهاما ضمنيا بالكذب، فقد أثار ضجة في البرلمان ما اضطره إلى التراجع.
إن كانت ظروف استثنائية قد جاءت ببوريس إلى السلطة، فإن بقاءه سيكون صعبا بعد زوال تلك الظروف، وهي وجود قيادة ضعيفة في حزب العمال المعارض، وتصديق ناخبين كثيرين بادعاءاته أثناء الاستفتاء بأنه سيوفر 350 مليون جنيه أسبوعيا، ويخصصها لخدمة الصحة العامة، ودعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أوهم كثيرين بأن الولايات المتحدة سوف تعوض بريطانيا عن خسارتها الاقتصادية الناتجة عن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
لقد تغيرت تلك الظروف، فالمعارضة الآن أقوى كثيرا من السابق، ويتزعمها قانوني متمرس وسياسي حاذق، والرئيس ترامب لم يعد في السلطة، بينما انكشف زيف الادعاء بتوفير 350 مليون جنيه أسبوعيا. يضاف إلى ذلك، تتابع الفضائح، الواحدة تلو الأخرى، على حكومة بوريس، فانتهى عهده بعد ثلاث سنوات عجاف، وتلاشت أحلامُه في البقاء في السلطة ثلاثَ دورات انتخابية. لقد حقق بوريس طموحه بإدراج اسمه ضمن سجل رؤساء الوزارات البريطانية، لكن الثمن كان باهظا له ولحزبه ولبلده.