القرار الأخير لولي العهد الكويتي، حلّ البرلمان، أعاد طرح أسئلة ملحة حول الديمقراطية؛ هل هي غاية في حد ذاتها، أم هي مجرد وسيلة لتحقيق ما تصبو إليه الشعوب من تنمية ورفاه وتطور؟ ألا يسمح الوضع الكويتي الراهن بالقول إن اختصار الديمقراطية في شكلها الخارجي القائم على الانتخابات وصراع الأحزاب، يؤدي حتما إلى إدارة الظهر لانشغالات الناس ومطالبهم المشروعة؟

الشيخ مشعل الأحمد الصباح، قال في كلمته التي بثها التلفزيون الرسمي "قررنا اللجوء للشعب ليقوم بإعادة تصحيح المسار السياسي"، وأن "الاختيار غير الصحيح للممثلين في مجلس الأمة يضر بمصلحة البلاد ويعود بنا للمربع الأول"، وكانت الجملة الأخيرة تشير إلى مكمن الأزمة التي لم تبدأ مع استقالة حكومة صباح الخالد الحمد، يوم 5 أبريل الماضي. استقالة الحكومة كانت مجرد مفصل في متوالية الأزمة التي لا تنتهي بين حكومات ضعيفة (في الغالب) وبرلمان همه معارضة الحكومة، خاصة وأنه يملك صلاحية إقرار جميع مشروعات القوانين المهمة والميزانية واستثمارات الدولة. المفارقة أن هذا الصراع المحتدم يجري تحت مظلة الديمقراطية، وهو ما أنتج حلقة مفرغة بلا نهاية، ويكفي إلقاء نظرة سريعة على مسيرة مجلس الأمة الكويتي منذ عودة الحياة النيابية عام 1992، بعد تحرير دولة الكويت، لكي نلحظ أن مجلس الأمة تم حله ست مرات، إضافة إلى إعلان المحكمة الدستورية بطلان مجلس العام 2012 (الذي سيطر عليه الإسلاميون) وإعادة مجلس 2009.

الأزمة السياسية في الكويت كامنة في دستور الاستقلال الذي وقعه الشيخ عبد الله السالم أمير البلاد في العام 1962، وكان دستورا مستندا إلى المبادئ الديمقراطية وساعيا إلى الجمع بين ملامح النظم الرئاسية والبرلمانية السائدة في البلدان الديمقراطية المتقدمة. تبين لاحقا، أي بعد عقود من الممارسة السياسية في الكويت أن الدستور كان دستور نوايا حسنة لكنه قسم السلطة إلى مربعات متنافرة، وأتاح لمجلس الأمة صلاحيات واسعة، أهمها حق المسائلة والاستجوابات الذي تحول إلى سيف مسلط على كل الحكومات، لتتحول العلاقة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية إلى عقبة كأداء أمام مسيرة التطوير، وعائقا أمام حسن توظيف الموارد الطبيعية المتوفرة للبلاد. في هذه العلاقة المختلة، المحمية بالدستور، تواجه الحكومة الفاقدة لكل سند سياسي (حكومة لا تدعمها أحزاب) أحزابا أخرى تغلب مصالحها الحزبية أو القبلية على حساب مصالح الوطن. ولولا تنصيص الدستور الكويتي على مادة تعطي أمير البلاد الحق في حل مجلس الأمة، لوصلت البلاد إلى وضعيات أكثر خطورة مما تعيشه اليوم.

الأزمة السياسية في الكويت متشابكة، تتداخل فيها الأبعاد الدستورية والسياسية والقبلية والدينية، وكل ذلك يجري في بيئة مجتمعية هادئة ومتسامحة، وهو ما صنع تناقضا بين هوية البلاد وبين واقعها السياسي المشحون على الدوام. وفي عمق هذا التوصيف أزمة أعمق تكمنُ في كون الديمقراطية لا يمكن اختصارها في مجرد إجراء عمليات انتخابية منتظمة، بل هي مناخ كامل تتضافر فيه أبعاد مجتمعية وتعليمية وإعلامية وسياسية وثقافية، لتسمح بعملية سياسية تكون مراعية، بالأساس، للخصوصيات التاريخية والاجتماعية للبلاد.

كان دستور الكويت الذي حاول استلهام فصوله من مدارس ديمقراطية عريقة ومتقدمة لكنها مختلفة عن الواقع الكويتي المعول الأول الذي ضُربت به العملية السياسية في البلاد. وكان للأحزاب السياسية التي تتحركُ أحيانا بمنطق قبلي دور مضاف في ترذيل الممارسة السياسية. وكان أيضا للبعد التاريخي دور آخر في مزيد من تأزيم الواقع السياسي، حيث كانت النخبة الكويتية- التي عاصرت سنوات الاستقلال ونشأة الدولة وصياغة الدستور- نخبة أكثر التحاما بمجتمع البلاد وأكثر التصاقا بطموحات قيادتها وأكثر تسامحا ووطنية، لكن ذلك تغير بعد عقود حيث وصلت نخبة سياسية لا ترى في العمل السياسي سوى مصالحها وعلاقاتها، ولذلك تحول المشهد البرلماني إلى مسرحية متواصلة لا تتوقف فيها الاستجوابات والمسائلات.

إذا نظرنا إلى المشهد الكويتي من خارجه، وإذا وضعناه في إطاره الإقليمي فإننا سنلحظُ حتما أن الكويت التي تفاخرُ بكونها صاحبة التجربة الديمقراطية الأكثر تجذرا في المنطقة، هي أكثر دولة تعاني مآلات هذه الديمقراطية، إذ حرمت هذه الصراعات المتواصلة البلاد من إطلاق قدراتها التنموية والاقتصادية، وهي قدرات واعدة بلا شك في ظل امتلاك الكويت لموارد طبيعية تحسدُ عليها. دول خليجية كثيرة سبقت الكويت في التنمية وفي الاقتصاد والبناء والتشييد لأنها راهنت على الاستقرار السياسي العلاقات السياسية الهادئة وتفادت الديمقراطية المُمَسْرحة والصخب البرلماني، والأكيد أن هذه الفوضى الديمقراطية السائدة في الكويت تقدمُ صورة سيئة للشعوب العربية عن الديمقراطية. تلعن الشعوب الديمقراطية التي لا تحقق التنمية ولا تجلب الاستقرار ولا تنتجُ أرقاما ومنجزات.

الثابتُ أن القرار الأميري الأخير بحل مجلس الأمة، لن يكون ترياقا لأزمات البلاد، إذ لا تزول الظاهرة إلا بزوال أسبابها وأسباب الأزمة كامنة أولا في الدستور، وكامنة أساسا في تعريف الديمقراطية التي تعتمدها الكويت. ستجري انتخابات جديدة قريبا وستفرز مجلس أمة جديد سينتهجُ نفس الممارسات السياسية في علاقته بحكومة ضعيفة بدورها، لأنها نتاج مشهد سياسي متشظ، ولعل هذا درس سياسي بليغ نستنتجُ منه أن الديمقراطية غير المشتقة من واقعها ستتحول إلى ديمقراطية مفرغة من محتواها الاقتصادي والاجتماعي، والدرس الآخر المستفاد هنا أنه لا يكفي تنظيم انتخابات لكي نسعد بكوننا نعيش وضعا ديمقراطيا.

على نُخب الكويت ومفكريها أن يذهبوا إلى أصل المشكلة، وأن يتجهوا رأسا إلى الدستور بالتغيير أو بالتعديل، حتى تعود الأمور إلى نصابها، وتتجه العقول الشبابية الكويتية إلى البناء والتشييد وتقطع الطريق أمام سماسرة السياسة وتجار الأزمات الذين يقتاتون من الصراخ البرلماني ومن الصراعات السياسية.
في الكويت دستور صيغَ بنوايا حسنة، وديمقراطية لم تُقتطفْ من واقع البلاد وتاريخها، فتحولت إلى تهريج سياسي حرم البلاد من الانتفاع بخيراتها.