هذه من نوافل الكلام؛ فمنتجو الثّقافة والمعرفة، من كتّابٍ وباحثين، هُم - ابتداءً - قـرّاءٌ لهم في القراءة تاريخٌ يمتدّ من مراحل ما قبل التّـأليف والكتابة إلى مرحلة التّأليف والكتابة، من دون أن يتوقّف معهما لاستمرار حاجة الأخيريْن إلى مواردَ جديدة تُـسْتَأْتى من القراءة. كلُّ تراجُعٍ في معدّلات القراءة والمقروء يستجرّ، حكماً، تراجعاً نظيراً في نسبة المنتوج الثّقافيّ والمعرفيّ وفي قيمته ومضمونه.

هذا فيما خصَّ القراءةَ بحسبانها مورداً رئيساً للثّقافة والمعرفة ولمن ينتجون أثراً ثقافيّاً أو فكريّأ. ولكنّ مساحة القراءة أوسع من أن تكون مجرّد موردٍ للكتّاب والباحثين، لأنّها حاجة حيويّة لكلّ إنسان لتغذية مَلَكاته وتوسيع نطاق مداركه وتزويده بالمعارف الضّروريّة في حياته. حتّى الإنتاج الثّقافيّ والفكريّ، وإنْ عظُم شأنُـه، لا قيمة له إن لم يَـلْقَ التَّلَقّيَ القِرائـيّ المناسب من القرّاء. على أنّ قَـرَأةَ ذلك الإنتاج ليسوا، دائماً، معطًى موضوعيّاً جاهزاً إن لم يتهيّأوا سلفاً بالقراءة. وهكذا، كيفما تدير المسألة على وجوهها، تُلفِي ثابتاً واحداً في الصّورة لا يتبدّل أو يتغيّر، هو مفتاح المسألة: القراءة.

بهذا المعنى يَصِحّ، تماماً، أن تُـنْسب ظاهرةُ التّراجع الثّقافيّ والفكريّ في العالم إلى عامـلِ التّراجُع المَـهُول في نسبة القراءة، بما هو عاملٌ مفسِّـرٌ لجوانبَ عـدّة من (ذلك التّراجع). وإذْ تُـلْحَظ الظّاهرةُ هذه صعيد ضَعْـف موارد ذلك الإنتاج ومصادره لدى مَـن ينشرونه من الكُتّـاب والباحثين، تُلْحَظ - على نحوٍ مكـبَّـر ومخيف - على صعيد الجمهورُ العامّ القارئ المتراجعة نسبةُ مقروءاته تراجعاً مثيراً. نعرف ذلك، على الحقيقة، من نسبة مبيعات الكتب وتناقُص حجم المنشور من نسخها في المطابع، ولكـنّنا نلاحظه، أيضاً، في المستوى المتدنّي لمعارف التّلاميذ والطّلبة في المؤسّسات التّعليميّة.

نحن نعيش، فعلاً، أزمة القراءة. وهي أزمةٌ حادّة بدأت منذ نيّفٍ وثلاثين عاماً، لكنّها ما فتئت تستفحل مع الزّمن. في مرحلةٍ أولى، بـدَتْ هذه الأزمة في شكلِ تراجُـعٍ عن معـدّلات قراءة الكتاب، من غير أن يساوقه تراجعٌ في نسبة مستهلكي المجلاّت الفكريّة والأدبيّة أو المتنوّعـة والجرائد؛ فالعلاقة بالمادّة المكتوبة، حينها، لم تكن قد أصيبت بالضّرر بعد، وإن كانت تدهورت في المستوى. والحقُّ أن تدهورها (من الكتاب إلى الجريدة) استجرَّ نتائج في غاية السّوء على معارف القرّاء، ثمّ على معارف أجيال جديدة من الكتّاب والباحثين. لوحظت تلك الآثار في المستوى الهزيل للمعظم من البحوث الجامعيّة في أقسام الآداب والعلوم الإنسانيّة، مثلما ستُلاحَظ - بعد ذلك - في التّـأليف على وجْـهٍ عامّ. ولقد نبّهنا ذلك، في حينه، إلى أنّ الأزمة لم تكن أزمة قراءة، فقط، بل أزمة قراءةٍ ومقروء أو، قل، أزمة على مستوى المقروء نفسِه!

بـدتِ القراءة بمعدّلاتها المتراجعة، حينئذ، ضحيّةَ مزاحمةٍ من مصدرٍ آخر من المصادر القادرة على احتكار الانتباه والتهام حصص القراءة لدى مَـن هُم في عداد القُـرّاء. ولم تكن المصادر المزاحِمة تلك سوى أجهزة الإعلام (= التّلفاز خاصّة) والسّينما: التي لم تعد منتوجاً يُـطْـلَب في أمكنته المخصوصة (دور السّينما)، وإنّما بات عموميّاً يمكن استهلاكه عبر التّلفزيون، أو من طريق أشرطة الفيديو المتوفّرة في الأسواق. ثمّ لم يلبث هذا المنحى أن تعاظَم واتّسع نطاقاً في بداية التّسعينيّات مع الثّورة الإعلاميّة التي أحدثها البثّ عبر الأقمار الصّناعيّة، وسمحت بالولوج إلى آلاف القنوات التلفزيونيّة. لقد بـدتِ القراءة، إذن، ضحيّة هيمنة ثقافـة الصّـورة في هذه المرحلة من أزمتها.

أمّا طور الأزمة الأشدّ، التي تستبدّ بظاهرة القراءة، فهو الذي نشهد عليه منذ ثلاثين عاماً؛ منذ ولجنا الحقبة الإلكترونيّة من التّطوّر. لم تعُـد مصادر المعرفة، التي منها تُسـتـقى المعارف في هذا الطّور، هي الكتب ولا المجلاّت المتخصّصة وإنّما الشّبكة العنكبوتيّة ومواقــع المعلومات فيها. أمّا نوع "المعرفة" المستقاة فهي الأخبار والصّور، وغالباً للتّسليّة وتمضية الوقت. أمّا حين يتعلّق الأمرُ بقارئ باحث فلا تتغيّر العلاقة كثيراً؛ إذ يجد في المصادر الإلكترونيّة ضالَّته التي "تغنيه" عن العودة إلى المصادر: المختَصرات المُخِلّة بشروط المعرفة، ناهيك بما تغريه به تلك "المصادر" الوهميّة من مسلكيّات مثل القرصنة والانتحال والغشّ. هكذا تأتي "المعرفة" بالوسائط الإلكترونيّة على المعرفة والثّقافة بالإفقار والهدم!!!

الثّقافة والمعرفة اليوم في أزمة، لأنّ القراءة في أزمة. وهذه أزمةٌ قد تمتدّ وتستفحل، وربّما تنتهي إلى انقراض ظاهرة القراءة جملةً إنْ لم توضَع، منذ اليوم، خطّة عمل - بل استراتيجيّة - لتنمية قيم القراءة وترسيخها في ثقافة النّاس منذ المراحل المبكّرة من العمر. وهذه استراتيجيّة ينبغي أن تُجنّد فيها المؤسّسات كافّة: الأسرة، المدرسة، الجامعة، الإعلام، سياسات ترويج الكتاب والإنفاق على صناعته. ذلك وحده ينقذ الثّقافة والمعرفة من زوالٍ محقَّق.