لكن الثابت أن الإدارات الأميركية المتعاقبة في الولايات المتحدة تجد في تركيا دولة وظيفية تؤدي ما يطلب منها أميركياً، حتى لو لم يكن ذلك مطابقا للمصالح التركية بشكل كامل.

وثمة تناقضات برزت بين فترة وأخرى بين الدولتين حول العمليات التركية في شمال سورية منذ اندلاع الأزمة السورية قبل عقد من الزمن، والتي توجت أخيراً بتهديدات لأردوغان ضد الأكراد وإرساله الجيش التركي لتنفيذ عمليات عسكرية خارج حدود تركيا.

رغم العلاقات المتشعبة بين تركيا والولايات المتحدة، ثمة تناقضات حول العمليات والتوغلات التركية في شمالي سوريا بين فترة وأخرى؛ حيث عبرت الولايات المتحدة أخيراً عن قلقها من خطط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لشن عمليات عسكرية جديدة على الحدود الجنوبية لبلاده، قائلة إن "أي هجوم جديد في شمال سوريا سيقوض الاستقرار في المنطقة ويعرض القوات الأميركية للخطر"، في وقت أثار دعم واشنطن لوحدات حماية الشعب الكردية السورية في سوريا غضب أنقرة التي تعتبر الوحدات منظمة إرهابية؛ وقد نفذت القوات التركية عدة توغلات بمسميات مختلفة في شمال سوريا منذ عام 2016 لإبعاد الوحدات عن الحدود التركية جنوباً.

وهناك تناقض كبير في إطار العلاقة الأميركية - التركية أو يكمن في صراع أنقرة مع حزب العمال الكردستاني، الذي حارب تركيا على مدار عدة عقود، وارتباط أميركا بعلاقة مع وحدات حماية الشعب الكردية، القريبة من الحزب، في الحرب ضد تنظيم الدولة الذي يختفي بمنطقة لينمو في منطقة أخرى.

والثابت حتى اللحظة أن أميركا لم تستطع إدارة الظهر للمخاوف التركية المتعلقة بأمنها القومي والتي تشهرها تركيا على الدوام؛ خاصة حين تحضر لاجتياح بعمق معين شمالي سوريا لإبعاد وحدات حماية الشعب الكردية عن الحدود التركية؛ الأمر الذي يؤكد استمرار التناقضات بين أميركا وتركيا في المستقبل المنظور؛ حيث يوجد في المشهد السوري أكثر من لاعب إقليمي ودولي، وعلى وجه الخصوص إيران وروسيا، ولكل منها أهداف عديدة وليست اقتصادية فحسب؛ ولهذا لن تكون أميركا غائبة عن المسرح السوري في المدى المنظور.

هذا وقد أعد موقع "إل مونتور" تقريرا تحت عنوان "القوات الكردية والسورية والإيرانية تتكاتف في وجه العملية العسكرية التركية"، أشار في مستهله إلى ما أعلنته عدة فصائل وكتائب سورية مختلفة الانتماءات، في الـ25 من مايو الماضي، عن تشكيل غرفة عمليات مشتركة قبيل العملية التركية الوشيكة في شمال سوريا.

وتقع غرفة العمليات المشتركة المعروفة باسم "الصاعقة الشمالية" في قاعدة روسية بقرية حردتين بريف حلب الشمالي.

وتضم غرفة العمليات تلك وحدات حماية الشعب الكردي(YPG)، وكتيبة تابعة لـ "الفاطميون" المدعومة من إيران، وكتيبة تابعة لحزب الله الشيعي اللبناني، جماعات مدعومة من إيران من بلدتي نبل والزهراء. وتشكيلات لقوات النظام السوري من بلدات أبناء الساحل وحيان وحريتان وعندان. ويقدر الوجود العسكري الميداني لهذه القوات بنحو 600 جندي، إضافة إلى قوات النظام المنتشرة على الأرض.

وفي هذا السياق، قال لي مصدر عسكري رفيع المستوى من قوات سورية الديمقراطية التي يقودها الأكراد إن "إيران هي التي شكلت غرفة العمليات بالضغط على النظام وروسيا، من خلال قادة إيرانيون في قوات تحرير عفرين التابعة لحزب العمال الكردستاني والمتواجدة في شمال شرق سوريا.

وبالتالي تسعى إيران لحماية مدينتي نبل والزهراء ذات الأغلبية الشيعية، والواقعتين بالقرب من خطوط التماس مع المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المدعومة من تركيا، والتي ستكون في خطر إذا سيطرت الأخيرة على مناطق جديدة بعد العملية التركية".

وفي الاستنتاج أنه رغم التناقضات التركية – الأميركية حول توغلات تركيا في الشمال السوري، لكن تركيا ستستمر بين فترة وأخرى بالحديث عن عملية مرتقبة في الشمال السوري للاستئثار بصوت الناخب التركي في نهاية المطاف.

ويمكن الجزم بأن السبب الرئيسي لتهديدات أردوغان ضد الأكراد قبل فترة وجيزة وإرساله الجيش التركي لتنفيذ عمليات عسكرية خارج الحدود، هو سبب في تدني شعبيته، فضلاً عن تردي الأوضاع الاقتصادية، وخسارة العملة التركية لقيمتها، وتالياً ارتفاع معدلات التضخم بشكل كبير ولافت، في وقت باتت فيه الانتخابات الرئاسية والتشريعية على الأبواب، لذلك لم يجد أردوغان من ورقة يلعب بها لاستعادة شعبيته إلا الجيش، بينما فات أردوغان ان هذه الورقة ليست مضمونة، وقد يكون لها تداعيات خطيرة على تركيا قبل غيرها.

وإذا أردنا أن نلخص عمليات التوغل التركي في الشمال السوري فقد تدخلت تركيا عسكرياً في سوريا خلال عام 2016 منعاً لما أسميته آنذاك "إنشاء ممر إرهابي" على حدودها الجنوبية، أي تأسيس القوى المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، لا سيما بعد أن كسر الهدنة معها واستأنف عملياته العسكرية وخاض حرب مدن وشوارع بالمناطق ذات الأغلبية الكردية في البلاد بعد إعلان "الإدارات الذاتية" فيها.

أما العملية الثانية، "غصن الزيتون"، التي أطلقتها تركيا في يناير 2018 فقد أخرجت وحدات حماية الشعب من منطقة عفرين شمال غرب سوريا، مانعة تواصلها مع ساحل المتوسط وحصر وجودها الجغرافي ما بين الداخل السوري وحدود تركيا الجنوبية؛ وكان حزب الاتحاد الديمقراطي قد أعلن عن إدارات ذاتية في ثلاثة كانتونات في الشمال السوري في مطلع العام 2014، ولذا فقد هدفت العملية التركية "درع الفرات" في أغسطس 2016 منع التواصل الجغرافي بينها، إضافة لمكافحة تنظيم الدولة "داعش" في تلك المناطق؛ وفي أكتوبر 2019 شنت أنقرة عملية "نبع السلام" ضد قوات "سوريا الديمقراطية" وأعلنت أن هدفها إنشاء منطقة آمنة على الحدود التركية السورية بعمق 30 كلم وطول 432 كلم.

في الخلاصة يبدو إن الولايات المتحدة تتوقع أن تلتزم تركيا بالبيان المشترك الصادر في أكتوبر 2019، بما يشمل وقف العمليات الهجومية في شمال شرق سوريا؛ وتدين أي تصعيد ونؤيد الحفاظ على خطوط وقف إطلاق النار الحالية، لهذا يمكن الجزم بأن تركيا لن تقوم بالعملية المزمعة في الشمال السوري وتدير ظهرها الى موقف إدارة بايدن من العملية؛ في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا والتوترات الأميركية – الإيرانية بما يخص الملف النووي الإيراني ؛ وفي مقابل ذلك ستأخذ إدارة بايدن المخاوف الأمنية التركية على محمل الجد؛ وبهذا يمكن إدارة أي أزمة قادمة بين أميركا وتركيا حول الشمال السوري مع الأخذ بعين الاعتبار مصلحة الدولتين.