هذا المشروع الذي أعلن عنه الرئيس التونسي في الثالث عشر من ديسمبر الماضي يقترب من الوصول إلى محطته الأخيرة، فخريطة الطريق التي وضعت محطات رئيسية للعملية السياسية خلال عام يقترب موعد استحقاق أهم محطتين فيها، وهما بالترتيب الزمني وأيضًا بترتيب الأهمية الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، والمحدد له يوم 25 يوليو المقبل، والاستحقاق الثاني هو تنظيم انتخابات تشريعية وفق قانون انتخابي جديد في السابع عشر من ديسمبر المقبل، بالنسبة إلى المحطة الأولى والأهم، وهي الاستفتاء على الدستور الجديد الذي سيضع ملامح الدولة الجديدة وشكل نظام الحكم والعلاقات بين السلطات فيها، لم يعد يفصلنا عن موعده سوى نحو شهر من الزمان، وقد يكون هذا الشهر هو الأهم في تاريخ تونس منذ عام 2011 حتى الآن، لأنه سيُحدّد مستقبلها ومصيرها وأين ستقف، مشروع هذا الدستور سيكون جاهزًا خلال أيام قليلة وفي أجل أقصاه 30 يونيو المقبل وفقًا للمرسوم الرئاسي، بعدها سيكون متاحًا للنقاش وتبادل الآراء قبل التصويت عليه بـ"نعم" أو "لا".

هذا النقاش ليس محلّه الشارع بكُلّ تأكيد، فالشارع لا يبني المستقبل حتى وإن كان قادرًا على هدم أخطاء الماضي وتبيان عدم صحّة المسار، فالشارع الذي قد يبدو متوحدًا ومتماسك الصف في رؤيته للأخطاء سيكون بالتأكيد منقسمًا على كيفية إصلاحها، وهنا يأتي دور القوى السياسية الفاعلة لكي تتحمّل مسؤولياتها في لحظة فارقة في تاريخ تونس المعاصر، والتي لم تعد تحتمل مزيدًا من المكايدات السياسية والمزايدات وشحن وتعبئة الجماهير لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة على حساب مصلحة الوطن والشعب، وهنا فإنّ نهج الحوار الوطني على قاعدة المصلحة العامة هو السبيل الأمثل لمواجهة هذه اللحظة الأصعب في تاريخ تونس، ولا بد من الصبر على مسار التصحيح الذي بدأه الرئيس قبل نحو عام وانتظار نتائجه واختبارها قبل خيار العودة للشارع مرة أخرى، وبالطبع يمتلك الشعب التونسي وحده حق الاختيار وتقرير مصيره ومستقبله وتحديد اختياراته في الاستفتاء الذي سيحل موعده بعد أسابيع قليلة، لكن يجب أن تكون تداعيات الاختيار واضحة، وفي تقديري أن التصويت بـ"نعم" على مشروع الدستور قد يكون مدخلًا لعودة الاستقرار إلى تونس مرة أخرى وتجاوز الأزمة السياسية الخانقة التي طالت، لأنّه سيضمن نظامًا رئاسيًّا قويًّا تحتاج إليه تونس كما تحتاج إليه بقية الدول العربية، كما سيضمن وجود برلمان يعبّر عن تطلعات الشعب التونسي، وبما يضمن في النهاية الحفاظ على تماسك الدولة التونسية ومؤسساتها، في المقابل قد يُؤدّي التصويت بـ"لا" في الاستفتاء إلى إغراق البلاد في مشاكل دستوريّة وقانونيّة لن تنتهي، وقد يُعيد البرلمان المرفوض شعبيًّا الذي حلّه الرئيس في مارس الماضي، وقد يُعيد العمل بدستور 2014 الذي تمّت صياغته بأسس ديمقراطية زائفة، تستند إلى إرادة ورؤية أحادية أدارها الطرف المتحكم وقتها في الحياة السياسية، عندها قد تدخل البلاد في متاهةٍ لن تخرج منها في المدى المنظور وشلل تام قد يُصيب كل مناحي الحياة في هذا البلد الذي كان محطّ أنظار الجميع كنموذجٍ واعدٍ لانتقال ديمقراطي سلس قبل أن يتبدّد التفاؤل تدريجيًّا ويتحوَّل يومًا بعد يومٍ إلى حذرٍ وترقّب.

وصل قيس سعيد إلى سُدّة الحكم في قصر قرطاج اعتمادًا على أصوات فئات واسعة مِن الشباب التونسي، إضافة إلى أصوات شرائح اجتماعية أُخرى عاصرت انتهازية القوى السياسية في إدارة المرحلة بعد 2011، لذا صوّتت عقابيًّا ضد المنظومة الحزبية بأكملها، وضد مسار سياسي رأت أنّ الاستمرار فيه كان سيدخل تونس نفقًا مظلمًا لا مخرج منه في المستقبل القريب، وكان سعيد في نظر ناخبيه كما هو حاليًّا، مختلفًا عن باقي مكونات المشهد السياسي التونسي أحزابًا وحركات سياسية وزعماء وناشطين، بنقاء تاريخه السياسي وتميّزه بنظافة اليد والاستقامة والنزاهة وعدم الفساد وعدم استناده إلى أي قوى سياسية من التي حكمت المشهد وتحكّمت به وأوصلته إلى ما هي عليه. ولذلك فهو بالنسبة إلى هؤلاء كان بمثابة المنقذ مِن المنظومة السياسية والحزبية الأيديولوجية التي أدارت شؤون البلاد خلال السنوات العشر التي أعقبت الثورة، وتلاحقها تهم الفساد والانتماءات الفئوية الضيقة، والتي كادت أن تعصف بتونس ومستقبلها بعد أن تسبّبت سياساتها في تهديد أمنها واستقرارها وتقسيم شعبها وتعظيم حالة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، وانطلاقًا مما تقدّم سعى الرئيس قيس سعيد إلى وضع بصمته الشخصيّة على التغييرات التي يسعى إلى إدخالها على النظام السياسي والدستوري حفظًا لمستقبلها وصونًا لشعبها ومنعًا لتكرار عثراتها، وإنقاذها مِن الخطر الداهم والفساد والفوضى، لذا فإن التصويت بـ'لا' على مشروع الدستور ستكون ضربة سياسية محبطة للرئيس التونسي، لأنه سيعتبرها رفضًا لمشروعه الإصلاحي، وهنا قد يفكّر فيما أقدم عليه الزعيم التاريخي لفرنسا وأحد أفضل قادتها الجنرال شارل ديجول، عندما أقدم على الاستقالة في عام 1969 بعد تصويت 52.4 بالمئة مِن الشعب الفرنسي بـ"لا" في الاستفتاء الذي دعا إليه لتكريس مزيدٍ من اللامركزية عن طريق مشروع لتنظيم المناطق وإدخال إصلاحات تجديدية على مجلس الشيوخ، ورغم أنّ تقديرات عدد كبير مِن المحللين السياسيين الفرنسيين أن أغلبية الشعب وقتها كانت مؤيدة لمشروع هذا القانون الذي عرض عليهم، فإن حسابات السياسة أسقطته في الاستفتاء وأسقطت معه الرئيس الأبرز والأشهر في تاريخ فرنسا.