قد تكون قوّةُ الضّغط الشّعبيّ على نظامٍ مّا هائلةً في لحظة الانتفاض عليه، خصوصاً حينما تمتدّ في الزّمان، وتتّسع نطاقاً في المكان فتشلّ الحركة والإنتاج ومرافق الحياة العامّة.

ومع ذلك قد لا تَقْوى على بلوغ هدف إزاحة النّظام، أو رأسِه، إن لم يتسَنّ لها تحقُّقُ أحدِ أمريْن: مشاركة الجيش إيّاها عمليّةَ التّغيير بالضّغط على النّخبة الحاكمة وحمْلها على التّنحّي، أو باتّخاذ موقف الحياد في المواجهة بين الشّارع والنّظام وبالتّالي، حرمانِ النّظام مساندتَها له وإضعافِ موقفه في المواجهة.

من النّافل القول إنّ شراكة الجيش في عمليّة التّغيير - ولو بالتزامه موقفَ الحياد - حاسمة في تمكين عمليّة التّغيير من التّحقّق.

ويمكن الاستدلال على لابُدِّيَّتها من افتراض العكس، أي من افتراض وقوف مؤسّسة الجيش إلى جانب النّخبة الحاكمة ودفاعها عنها في وجه المنتفضين ضدّها. عندها تكون فرص التّغيير قد تعسَّرت أكثر على من يريدون التّغيير، أو ربّما امتنعت.

لذلك لا يمكن لحركات التّغيير الحقيقيّة أن تصيب حظّاً من النّجاح إلاّ متى خَطَبَت ودّ مؤسّسة الجيش، فكسبتها إلى جانبها أو ضمنت - على الأقلّ - حيادها.

ماذا حصل في مصر وفي الجزائر، مثلاً، غير هذا؟

لولا موقف "المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة" لَمَا نجحت "ثورة" 25 يناير 2011 في أن تزيح حكم الرّئيس حسني مبارك في 11 فبراير. ظلّ الضّغط الشّعبيّ كثيفاً على النّظام في ميدان التّحرير والميادين المحيطة على مدى ثمانية عشر يوماً. لكنّه استفاد من عدم تدخّل الجيش ضدّ المتظاهرين. وكان يمكن لتلك الحشود المليونيّة أن تبقى في الشّوارع والسّاحات لأسابيع أخرى، وربّما لأشهر، مثلما بقيت في الجزائر مثلاً، لولا أنّ "المجلس الأعلى" أجبر الرّئيس على نقل السّلطة لنائبه عمر سليمان، ابتداءً، ثمّ أجبره بعدها على التّنحّي عن منصب رئيس الجمهوريّة ليستلم "المجلس الأعلى" سلطات الرّئيس لفترةٍ انتقاليّة، ثمّ ليحصل بذلك تغييرٌ أتى ثمرةَ شراكة بين الشّعب والجيش.

تكرّر المشهد عينُه تقريباً في الجزائر، في الهزيع الأخير من عهد الرّئيس عبد العزيز بوتفليقة اندلعت الانتفاضة الشّعبيّة في فبراير 2019 احتجاجاً على التّمديد للرّئيس لولاية خامسة.

وعلى نحو ما حصل في مِصْرَ، لم يواجهها الجيش بالقوّة، بل كانت قطاعاتُه متعاطفة معها على الأغلب.

ولقد كان رئيس أركان الجيش الجزائريّ، الجنرال أحمد قايد صالح، رديفاً للمشير حسين طنطاوي في دوره الحاسم في تسهيل وصول الانتفاضة إلى غايتها، فهو مَن أَقْنَع - أو أَجْبر - بوتفليقة على تقديم استقالته في الثّاني من أبريل؛ وهو مَن دعا إلى تفعيل المادّة 102 من الدّستور التي تختصّ بشغُور منصب الرّئيس، وهو من بقيَ ماسكاً بزمام الأمور حتّى حينما تولّى عبد القادر بن صالح، رئيس مجلس الأمّة، رئاسة البلاد مؤقّتاً.

وهكذا كسب الشّعب معركة التّغيير بمساعدة الجيش، بينما لم يستطع تظاهرُه لما يزيد عن العام ونصف العام - بعد سقوط النّظام - أن يصل إلى أيّ نتيجة لأنّ مطالب الشّارع لم تَلْقَ دعماً من الجيش.

ما يقال عن دور مؤسّستيْ الجيش في مِصْرَ والجزائر يقال عن دور المؤسّسة عينِها في السّودان، وعن موقفها الدّاعم للشّعب السّودانيّ في انتفاضته ضدّ نظام عمر حسن البشير. بل حتّى في تونسَ نفسِها، التي لم يُزِح جيشُها الرّئيس، استفادتِ الانتفاضةُ الشّعبيّة ضدّ نظام زين العابدين بن عليّ (17 ديسمبر 2010- 14 يناير 2011) من حياد الجيش وعدم مساندته النّظام، إذ ساعدها موقف الحياد ذاك في أن تفرض إرادتها في ميزان توازنات القوى، وأن تبلغ هدف إزاحة الرّئيس ونخبته الحاكمة.

ربّما قيل إنّ مؤسّسة الجيش في مِصْرَ وجَدَت مصلحةً لها في تغيير نظام مبارك، لأنّ ذلك يقطع الطّريق على سيناريو التّوريث الذي كان سيأتي بابن الرّئيس، جمال مبارك، إلى السّلطة وهو الذي يخالف عُرفاً سائداً منذ ثورة 23 يوليو: أن يكون الرّئيس من الجيش، لذلك وقفت إلى جانب الشّارع المصريّ ومَطالبه.

وربّما قيل إنّ مصلحةً في التّغيير نظيراً كانت لدى قيادة الجيش بإزاحة بوتفليقة في الجزائر، الذي كان يُدار حُكمه من طرف المخابرات، فيما كان الجيش - منذ انقلاب بومدين على بن بلّة في العام 1965- هو قاعدة السّلطة ورحمها التي يخرج منها الرّؤساء. لكنّ ذلك لا يغيّر من حقيقة أنّ الجيش، في الحالتين، هو ما يَسّر عمليّة إزاحة النّظام وشارك فيها وجنّب البلاد الفوضى بعد سقوط النّظام. وإلى ذلك، مَن ذا الذي يقول إنّ الجيش لا مصلحة له في التّغيير؟ بأيّ معيارٍ يَزن الأمور حين يقول ذلك؟!

حين ندرك أنّ الجيش مؤسّسةٌ سياديّة من مؤسّسات الدّولة، تحمي الدّولة والسّيادة وشعب الدّولة، لا أداةً في يد النّظام السّياسيّ القائم ندرك، بالتّبِعة، لماذا قد يقف الجيش إلى جانب الشّعب لا النّخبة الحاكمة، ولماذا قد يجد مصلحةً في التّغيير السّياسيّ لتلك النّخبة، على نحو ما حصل في الحالات السّياسيّة العربيّة التي أومأنا إليها، أو لماذا لا يساند الشّارع إذا كان في ذلك مساسٌ بالدّولة والوطن.