ألا يكفي برهاناً أن نتأمّل إيماء القداسة في سيماء أولئك الذين اغتربوا طويلاً، كي ندرك كم الاغتراب وسامٌ ربوبيّ، مثله مثل أي بلاءٍ غيبيّ؟ وهو ما تتحفنا به تجارب الأنبياء، الذين ضحّوا بالأوطان السفليّة، في سبيل استعادة فردوس الأوطان العلويّة؛ برغم سلطان الأوطان الأرضيّة على روح الأجناس البشرية؛ ولكن حرية الأبعاد القصوى تبقى رهينة التضحية بقدس الأقداس هذا، فلا يتردّد المسيح في استصدار الحكم الأقسى، في حقّ الأوطان، عندما يتغنّى: "لا كرامة لنبيٍّ في وطنه"، فلا تلبث الوصيّة أن تستقيم مع الزمن في مأثورة تقول: "لا كرامة لمريد حقيقة في وطنه"، ولو لم يكن الأمر كذلك لما تنزّه أوديب عن واقع حضيضنا الأرضيّ، بجحيم ذلك القصاص الإلهيّ، الذي طهّره من اقتراف خطيئةٍ منزّلةٍ بمشيئة قدر، ليصير، بهذا الألم، أهلاً لأن ينقذ أهل طيبة، بإبطال مفعول أحجية تنّين طيبة؛ لأن التجربة برهنت أن قيمة الانسان، ليست في ما يحقّقه من أحلام، ولكن في ما يجترحه من آلام. فإذا كنّا بالعقل نتأنسن، فإننا بالألم نتنزّه، بل بالألم نتنزّل!

والألم، الناجم عن التضحية بالأوطان، تجربة أعادت صياغة روح نموذج ميثولوجي آخر هو أوليس، الذي بلغ به الألم حدّاً استجدى فيه الأرباب أن ينتزعوا روحه، كي يحقق السكينة، ولكن بوسيدون، إله البحور، أجابه بما لم يخطر له على بال، عندما أعلن: "انتزاع روحك لم يكن في نيّتي، كل ما فعلته هو تلقينك درساً، عن معنى أن يحيا الإنسان، بلا من وطن!" فهل الوطن هو المعبود، الذي ننصّبه في وجودنا معبوداً، بديلاً للمعبود، حتى إذا شئنا أن نتمرّد على طبيعتنا الفانية، ونحقق فينا الطينة الخالدة، طرحناه قرباناً، للحصول على تفويضٍ، بارتياد حرية الأبعاد القصوى، الذي لن يكون سوى خلاص الأبعاد القصوى؟

فالهجرة ليست صنيع مجّان، ولكنها لقية لن نفهم حقيقتها، ما لم نعترف للطبيعة ببطولتها، المترجمة في حرف ذلك النزيف السخيّ، المعبّر عنه في تجربة ذلك التحرير الجسور، الذي تنازلت بموجبه الطبيعة عن نصيب من يبيسها، لتلفّق منه حرماً، يليق بأن يكون وطن الله، الملقّب في معاجمنا باسم الصحراء، لتكون هذه التضحية جديرة بشرف مسقط رأس النبوّة، فلم تكتفِ الطبيعة بأن تستقطع هذا المسقط من بدنها، ولكنها سقته، من سلسبيل ديدنها، ونفخت فيه من أنفاس دينها، وإلّا لما استطاع أن يكون ذلك الافيون، الذي أدمنته الخليقة منذ الأزل، ليكون في نشاط الأنام تميمةً، تجير من وباء وجودٍ اسمه السأم، ألا وهو: التغيير! التغيير في صيغته الصغرى، وهي: تغيير ما بالنفس، لغاية إحداث تغيير، في صيغة مكبّرة، هي تغيير ما بالعالم، مادام عالمنا ما هو إلّا مرآة. ما هو إلّا انعكاس لنا، انعكاسٌ هزيل للمعجزة التي تسكننا، معجزة الروح. وإحداث تغيير في هذا اللغز، الذي اصطفتنا به الغيوب، لنغدو بفضله المقياس لكل الأشياء في هذا الوجود، هو استنزال تغيير في صميم شبحنا، في صميم عالمنا. تغيير هو عتبة أولى في سلّم معراج: معراج تحرير ما بالعالم؛ لأن نيل الخلاص، أو استعادة الفردوس الضائع، هو رهين احتراف هذا النزيف، رهين اعتناق دين هذه الحرية. حرية مسبوكة من معدن اغتراب هو الهجرة. هجرة ضحّت بالحضور في رحاب معبودٍ هو الوطن، عندما تنكّرت للجذور، لتحتمل نزيف الروح، الناجم عن قطع الجذور، لكي تحقق بكل هذه القرابين النبوّة. نبوّة إنسان اعتنق الاغتراب ديناً، وقتل في نفسه طينة إنسان الطين، ليُحيي في نفسه، طينة أخرى، إنساناً آخر، وإلّا لما أفلح في أن يغيّر ما بنفسه، لكي يحقّق تغيير ما بالعالم.

فإدمان الرحيل يعني احتراف التغيير. ليس تغيير ما بالحرف، ولكن تغيير ما بالنفس، فالمهاجر ليس مخلوقاً متبطّلاً، ليس شريداً، سيّما إذا كان وحيداً، ولكنه فارسٌ شغوف، مسكونٌ بجنينٍ هو الفضول، فضولٌ مُتَرجَم في حرف استفهام، يهفو لاستجواب القرين الذي يسكنه، لا القرين الذي يسكن واقع هذا العالم. وديمومة الرحلة، تعني ديمومة السؤال، ممّا يقود إلى استطلاع الدلالة الحقيقية لوصيّة "اعرف نفسك"، كحجّة تحرير. تحرير ما بالنفس، كي يتحقق بفضلها التغيير. ولذا فالراحل وحده يمارس التغيير. ليتحوّل التغيير في نشاطه المحموم حرفةً. الحرفة كحركة تنوير. التنوير الذي يحقق الحرية بإدمان أفيونٍ هو التغيير، لأن بوجود الحسّ في مدار السيرورة، المكفولة بزند ديمومة الرحيل، يصفو الحدَس، فتتجرّد الروح من دنَس الباطل، فالمهاجر، كطيف عابر، لا حضور له في المكان، ولكنه يسكن اللا مكان، وأن يسكن اللا مكان يعني أنه يسكن البعد المفقود في المكان. والبعد المفقود حجّة إذا تعلّق الأمر بالإلهام، ولو لم يكن الإلهام حميم الصلة بواقع الهوية، لما اختارت الأمم الرحيل موضوعاً مرجعيّاً في سرديات ملاحمها الكبرى، بدءً بجلجامش، ومتون البوّابات المعروف بـ كتاب الموتى، مروراً بالإلياذة والأوديسة، والإنياذة، والكوميديا الإلهية، ودون كيخوت، ونهايةً بـ موبيديك، وذهب مع الريح، والحرب والسلم، والدون الهادي، والشيخ والبحر، والبحث عن الزمن الضائع، ومائة عام من العزلة، في حمّى التوق للتعبير عن محنة بهلوانٍ، هو الإنسان، الوجود في تجربته ليس نزهة، ليس نزوة، ولكنه غزوة، لذلك يبدو هزلياً بقدر ما هو تراجيدي: هزلي لأنه يعتنق دين الباطل، و تراجيدي لأنه يعلم من بين كل المخلوقات أنه فانٍ، فلا يجد ما يعزّي به قدره العدمي هذا سوى الواجب؛ لأن وجود الواجب، يغدو هو الوطن الذي يهب رحيله قيمة.

فالتغيير هو المنعطف الذي يتوجّب أن نتحمّم بسعيره، لكي نحقق في أنفسنا ميلادنا الثاني، ميلادنا الحقيقي، ميلادنا بالروح، بعد تجربة ميلادنا بالجسد، التي نلناها مجّاناً لا بمشيئتنا، ولكن بمشيئة الطبيعة. إنها البعث الذي تغنّت به ميثولوجيات الأمم منذ الأزل، مترجماً في حرف الطوفان. فكما لكل أمّة عظيمة كتاب مقدّس، كذلك لكل أمّة عظيمة طوفانها المقدّس. فالقيامة، التي تقتل فينا هويّة، لتحيي فينا هوية أخرى، إنّما تميت فينا وجوداً، لتبعث فينا وجوداً آخر. ففكرة الميلاد الثاني، التي انتدبتها المتون المقدسة، لتكون شرطاً لدخول ملكوت الربّ، إنّما كانت رهينة قيام القيامة بالطوفان، أي الغمر، لا بالنار، أو الزلزال، أو أي كارثة طبيعية أخرى؛ لأن الغمر الذي وُلدنا منه، هو بطن الباطن، الذي يتوجّب أن نعود إليه، إذا شئنا أن نُبعث من جديد. والطوفان هو المخوّل بلعب دور الرسول في تصحيح الوضع، وضع الهوية، بحيث يصيب التصويب المعدن في المخلوق، بتصفية الطينة الطبيعية، في صيغتها الأولى، ليحقق حضوراً في المنزلة الروحية، بالصيغة المعدّلة، بفضل طوفان يبدو بليّة، ولكنّه، في عرف الربوبية، يأبى إلّا أن يكون وساماً، فلا يعود المريد في حاجة لأن يتلو صلواته في المعبد، ولكنه، بالبليّة، يستعير هويّةً غيبيّة، يتحوّل بموجبها، هو الملاذ، المسكون بالمعبد.

هامش (*):

الرقم العاشر في حاسوب الأعداد ليس مجرد شرّ، ولكنه، في منطق العربية هو حرفياً: "أشر" مفعولاً؛ لأن العين في العربية بمثابة همزة، كأن نقول عمانويل، بدل إيمانويل، أليس، بدل علّيس، أي ألف بدل العين، لتغدو كلمة "عشر": أشرّ. أي استنزال مبدأ المفاضلة في فحواها، في نيّة صريحة لاستنزال إدانة في حقّ كل عدد يلي التسعة كتاسوع. يلي التاسوع ككمال، لأن الرقم العاشر هو صفقة ملفّقة من عددين هما الواحد والصفر. وخطيئتهما لا تتوقف عند هوية الازدواج، ولكنها تدمن بدعة لا أخلاقية هي التكرار. أي العَود على البدء. والعود على البدء ليس مجرد نكسة في حق الكمال، في حق التاسوع ككمال، الكمال كمعجزة وجود، ولكنه نفيٌ لهذه الحجّة. أي أنه تجديفٌ في حقّ الوجود، بفتح الباب على مصراعيه على هاوية. على ما اعتدنا أن نسمّيه عدَماً، بما هو عودة إلى غيوب ما وراء الصفر. وهو، لهذا، النقيض الصريح، بل، العدو اللدود، للتاسوع كفأل سعود، التاسوع كمستودع سعادة في المفهوم. ومن الطبيعي أن يقوم المُريد الظاميء لحقيقة الإعجاز، بتسويق الرقم التاسع، في حساب الأعداد، كاسم لمحفل الآلهة، لإيمانٍ غيبيّ يقول: "ما لا يتَتَسّع لا يعوّل عليه". لماذا؟ لأن التاسوع مستودع. التاسوع حاوية. حاوية بما هو القمقم الذي يحتضن كل الأعداد. فإذا كان، إلى جانب ذلك، مسك الختام في سلسلة أعداد تتطوّر من أسفل، في مسيرة النموّ، لتبلغ الكمال في بُعد السموّ، فهو بحقٍّ أمٌّ. أمٌّ لجنينٍ استوى في تشكيلٍ هو الوجود. وهو ما يستنزل فيه ماهيّة الأنثى، التي تستوعب الشفرة لتنتجها كوليد، تنتجها كوجود، في أمدٍ محدّدٍ بماهيّة التسعة أشهر. فالتسعة روح ربوبية، لأنه الأنثى التي أنجبت العالم، من رحم العدم، فحقّ للقطب أن يتغنّى: "ما لا يؤنّث هو ما لا يُعوَّل عليه!"

هامش (**):

هذا يعني أن أخياراً كثيرين آثروا أن يخفوا عنّا حقيقتهم، فتكتّموا على رسالاتهم، مما يبرهن أن عدد الأنبياء الذين لا نعلمهم ربما يفوق عدد الأنبياء الذين نعلمهم، إمّا لأن الأغلبية لم تؤتَ الشجاعة الكافية لخوض تجربة اعتناق وزر جسيم كالدعوة، أو لأن هشاشتهم الروحية هي ما خذلهم، والدليل يتحفنا به الموقف من النبوّة: فيونس يتنصّل من الدعوة بالفرار من نينوى، قبل أن تعتقله المشيئة الإلهية في بطن الحوت، وموسى يستجير من هول المسؤولية باللسان، عندما يشترط انتداب أخيه هارون لكي يكون له في الدعوة الترجمان، وخاتم النبيين والمرسلين يستجير بخديجة، مردّداً "دثّريني! دثّريني!" فراراً من رسول الحقيقة جبريل، وهو ما يعني أن قبول الدعوة هو ضربٌ من صفقة عصيّة نقبل بموجبها قدر أن نكون شهداء قيد الحياة، مقابل أن نضمن الحياة بعد الممات!