لا يخفى على أحد مسألة الملف النووي الإيراني والوصول إلى طريق مسدود في المفاوضات بين الطرفين الأميركي والإيراني والذي بدأ يأخذ منحى العلنية لحين الوصول قريبا إلى قرار بإيقاف المفاوضات وقد تكون بعدها زيادة العقوبات على إيران لإجبارها على الخضوع دون استبعاد الخيار العسكري في اي وقت كان.
ويبدو أن التوجه الأميركي سيكون عبر فرض قيود جديدة على البرنامج النووي الإيراني الذي يعد مؤشر خطر حقيقي على المنطقة والمصالح الأميركية في المنطقة وهناك تحذيرات أميركية بهذا الخصوص من أن إيران تماطل في المفاوضات لحين الوصول إلى انتاج اليورانيوم المنضب بكمية تكفي لتصبح دولة نووية.
في مطالعة لما جاء في الصحافة الاميركية هذا الاسبوع لفتني تقرير لمارك فيتزباتريك وهو صحفي أميركي حيث أعد تقريرا نشره موقع المونيتور تحت عنوان "حاجة ملحة لفرض قيود على برنامج إيران النووي أكثر مما مضى"، أشار في مستهله إلى أن التقريرين الصادرين عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الـ30 من مايو المنصرم بشأن برنامج إيران النووي يرسمان صورة رهيبة عن ذلك البرنامج. فقد أنتجت إيران الآن أكثر من 43 كيلوغراما من اليورانيوم عالي التخصيب بنسبة 60%. وهذه مادة انشطارية كافية لصنع سلاح نووي إذا تم تخصيبه بنسبة 90%، وهي عملية قد تستغرق مدة لا تزيد على الأسبوعين. ويشير التقرير إلى أنه في حين أن الأمر سيستغرق من إيران عدة أشهر أخرى لتحويل اليورانيوم عالي التخصيب إلى سلاح نووي، وربما عامين لتثبيت هذا السلاح على أحد الصواريخ.
لذلك وفي اعتقادي أنه بالنسبة لإيران، بات إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب المستخدم في صنع الأسلحة النووية القطب الأقصر. ومن الواضح أنه لم يعد بإمكان المفتشين زيارة مواقع إنتاج أجهزة الطرد المركزي أو المراقبة عن بعد على مدار الساعة عبر الكاميرات المثبتة في منشآت التخصيب في نطنز وفوردو. إن معدات المراقبة تلك لا تزال في الموقع، لكن المفتشين لا يستطيعون الوصول إلى البيانات الصادرة عنها. ومن ثم فهم يزورون نطنز مرة واحدة في الأسبوع في المتوسط. وبالنظر إلى الفترة القصيرة اللازمة لتخصيب اليورانيوم إلى المستوى العسكري، فإن توقيت عمليات التفتيش يقع ضمن هامش الخطأ. فمن السهل تصور سيناريوهات تمنع فيها إيران أحد عمليات التفتيش الأسبوعية من خلال الادعاء بوجود خطر صحي أو غيره من المخاطر، ربما من خلال زعمها حدوث هجوم تخريبي مثل تلك التي وقعت في نطنز في يوليو 2020 وأبريل. وفي هذا السيناريو، يمكن لإيران أن تحث خطاها لإنتاج اليورانيوم عالي التخصيب المستخدم في صنع الأسلحة وإخفائه، بينما تستأنف في الوقت نفسه أعمال التسليح التي أرجأتها في عام 2004. وفي ضوء ذلك باتت هناك حاجة ملحة لفرض قيود على برنامج إيران النووي أكثر من أي وقت مضى.
كذلك يجب التأكيد مجدداً على ان الأمر لا يخص أميركا فقط وإنما حلفاءها في المنطقة وبالأخص إسرائيل التي تعد إيران عدوا حقيقيا وهي تقوم بعمليات تصفية للعاملين في البرنامج النووي داخل إيران في وقت تعجز واشنطن عن إحراز اي تقدم على مستوى المفاوضات. وهنا لا بد من الإشارة إلى التقرير الذي نشره موقع ذا هيل الإلكتروني بعنوان "هل تريد إسرائيل أن تعود إيران إلى الاتفاق النووي؟ المسألة معقدة"، جاء فيه أن وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد قال: "أعلنت إيران أنها تريد القضاء علينا وليس لدينا أي نية للسماح بحدوث ذلك".
ولا يزال الرأي السائد هنا في واشنطن أن إسرائيل لا تستطيع أن تسمح لعدو وجودي بامتلاك سلاح نووي، وخاصة عدو تعهد مراراً بالقضاء عليها. وتعبيراً عن موقف إسرائيل الرسمي، قال رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي، أفيف كوخافي، إن "العودة إلى الاتفاق النووي المبرم عام 2015، أو حتى اتفاق مماثل يضم العديد من التحسينات- ستكون سيئة وخاطئة من وجهة نظر عملياتية واستراتيجية".
في لقاءات أجريتها مع بعض المحللين يجمع معظمهم على أن لدى إسرائيل القدرة التكتيكية على مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية في الماضي، ولكنها لم ترقى إلى مستوى الضرورة الاستراتيجية. ما جعلني أطرح أسئلة جديدة: ما هو "الخط الأحمر" الذي قد يجعل إسرائيل تشن ضربة عسكرية؟ وإذا فعلت ذلك، فهل ستحقق أهدافها؟ وكيف ستتحمل الهجمات الصاروخية من وكلاء إيران رداً على ضرباتها؟ اللافت في هذا الشأن، أن الموضوع المتكرر في اجتماعات لقادة أمنيين وعسكريين واستخباراتيين وسياسيين إسرائيليين -ممن لديهم آراء مختلفة حول ما تعنيه العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة- كان أن إحجام الولايات المتحدة عن تقديم تهديد عسكري موثوق به قد عزز موقف إيران التفاوضي. كما أن هناك إجماع عارم على أن إيران لن تتغير للأفضل، ولن تقلل من كراهيتها لإسرائيل أو للولايات المتحدة، بمجرد العودة إلى الاتفاق.
وهنا علينا الاستنتاج أن ما تفعله إيران من استهلاك للوقت كما أشرنا أعلاه في المفاوضات لو نظرنا إليها بشكل معمق فإننا أمام مفاوضات عقيمة الخاسر منها الولايات المتحدة والرابح منها إيران وخاصة الوقت الزمني الذي تحاول إيران من خلاله أبعاد النظر عن ما تفعله من خلال برنامجها النووي. في الخلاصة أن استعادة خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) لن تحل القضية الأساسية المتعلقة بأنشطة إيران السابقة في مجال الأسلحة النووية. إن أفضل ما يمكن أن تحققه الدبلوماسية هو كسب الوقت، وخلق إمكانية تحقيق مزيد من التقدم لاحقا. وفي حالة إيران، أصبح الوقت سلعة بالغة الأهمية، يحتاج المفاوضون لشرائه الآن وبأي ثمن.