بعد سنوات قاربت الأربعة عشر عاما من توترات سياسية وفتور في العلاقات التركية الإسرائيلية وصلت إلى مرحلة القطيعة السياسية المعلنة في شهر مايو 2018 بطرد متبادل للسفراء بين الطرفين، يبدو أن الأمور عادت مؤخرا إلى مجاريها وأن صفحة الماضي قد طويت إيذانا ببدء صفحة جديدة وفصل جديد في العلاقات بين البلدين.
السطر الأول في هذه الصفحة كتبه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنفسه في نوفمبر 2021 حين تحدث هاتفيا إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، في أول اتصال من نوعه بين منذ عام 2013.
وجاءت المكالمة بعد ساعات قليلة من إطلاق سراح زوجين إسرائيليين احتجزا في تركيا لمدة أسبوع للاشتباه في قيامهما بالتجسس.
السطر الثاني كان أيضا بمداد تركي وتمثل في زيارة إبراهيم كالين كبير مستشاري الرئيس التركي وبرفقته سادات أونال، مساعد وزير الخارجية التركي إلى إسرائيل في فبراير الماضي في محاولة لبحث ملفات الخلاف التي تعكر صفو العلاقات بين البلدين، ثم توالت السطور لاحقا كما في زيارة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هيرتسوغ، إلى أنقرة في مارس الماضي ولقائه بنظيره التركي، وأخيرا وليس آخرا كان السطر الأهم الذي تمثل في زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى تل أبيب ولقائه نظيره الإسرائيلي يائير لابيد خلال زيارة هي الأولى لمسؤول تركي رفيع منذ 15 عاما إلى إسرائيل.
هذا التقارب المتسارع الخطى في علاقات البلدين يثير بعض التساؤلات حول دوافعه ودلالات توقيته ومن سعى إليه، وكذلك مستقبله وآفاق تطوره، خاصة إذا كانت الأسباب التي أدت إلى تعكير صفو العلاقات بين البلدين خلال العقد الماضي لا تزال على حالها، فالممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة منذ عام 2008 والتي كانت دائما محل انتقادات من أنقرة، وسببا معلنا من قبلها لتدهور العلاقات مع إسرائيل لم تشهد تحولا جذريا لكنها لم تعد محل انتقادات من قبل أنقرة ولم تعد تلق بظلالها على العلاقات بين البلدين، إذن ما الذي حدث وقاد إلى هذا التحول الكبير في العلاقات بين البلدين رغم بقاء الأسباب المعلنة للتوتر على حالها؟
الواقع أن ما يحدث حاليا من تغير في السياسة الخارجية التركية في دائرة حركتها الإقليمية تحديدا يمكن تفسيره في المتغيرات الكثيرة داخليا وخارجيا التي حدثت في عام 2021 والشهور التي انقضت من 2022، وهي متغيرات معظمها اقتصادية وجدت أنقرة نفسها معها مضطرة لإعادة صياغة سياستها الخارجية وعلاقاتها الإقليمية، تحت وطأة الأزمة الحادة التي لم يشهد الاقتصاد التركي مثيلا لها ، وذلك من خلال العودة لمبدأ تصفير المشاكل مع دول تدرك أنقرة أنها دول وازنة ومؤثرة في المنطقة، فأطلقت محاولات للحوار مع مصر والسعودية والإمارات واليونان وأرمينيا، في ظل مساع ملموسة من قبل أنقرة للتقارب مع هذه الدول والتصالح معها وإعلاء المصالح المتبادلة والمنافع المشتركة على التجاذبات السياسية والقضايا الخلافية التي ممكن التشاور والحوار حولها دون تعطيلها لقطار المصالح المشتركة.
ومن هذا المنطلق وعلى هذه الأسس يبدو أن أنقرة قد ارتأت أن الوقت قد حان لإعادة الروح إلى علاقاتها مع إسرائيل والتي كانت قد شهدت عصرا ذهبيا قبل 2008، مستذكرة بأنها كانت ثاني أكبر دولة مسلمة تعترف بحق إسرائيل في الوجود عام 1949، أي بعد تأسيسها بعام واحد فقط.
وربما كانت الإطاحة برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو في يونيو الماضي وتشكيل حكومة جديدة كان عاملا مساعدا في مسار عودة الروح للعلاقة بين البلدين.
ومن هنا كان تأكيد وزيرا الخارجية التركي والإسرائيلي قبل أيام في مؤتمرهما الصحفي أن بلديهما يسعيان لتطوير العلاقات الاقتصادية المشتركة، ومن هذا المنطلق أيضا لم يجد مولود جاويش أوغلو أي غضاضة في أن يضع أكليلا من الورود على النصب التذكاري للمحرقة النازية "الهولوكوست" أثناء زيارته الأخيرة لتل أبيب، فرغبة تركيا الملحة في إصلاح اقتصادها المتعثر يمكن أن تمر عبر مشاريع الغاز والطاقة، وهنا لا بد من ممر إسرائيلي إجباري على أنقره المرور عبره.
فبسبب السياسات التركية خلال العقد الماضي أقامت إسرائيل تحالفا وثيقا مع خصوم تركيا الإقليميين، قبرص واليونان، لاستثمار مصادر الطاقة في شرق المتوسط وتوقيعهم على اتفاق يقضي بإنشاء خط لتصدير الغاز باسم (إيست ميد) ينطلق من أمام السواحل الإسرائيلية وصولا إلى أوروبا مرورا بموانئ قبرص واليونان، وهو المشروع الذي رفضته تركيا الراغبة بالحصول على حصة من موارد الطاقة في شرق المتوسط، بدعوى أن سيخترق مناطق الصلاحيات البحرية والنفوذ الاقتصادي بين تركيا وليبيا، غير أن الموقف الحاسم جاء من واشنطن، غير أن تخلي إدارة بايدن مؤخرا عن دعم المشروع، دفع دول المنطقة للبحث عن طريقة أخرى لتسويق حصصها من الغاز المكتشف أمام سواحلها، وهنا تسعى تركيا للدخول على خط هذا التحالف وتقديم بدائل تصب في مصلحتها وستكون العلاقة مع الجانب الإسرائيلي محورية في هذا الصدد، لكن الأمر لن يكون بهذه السهولة.
فمشاريع الطاقة الكبرى تحديدا تبنى بين دول تحظى فيما بينها بقدر كبير من الثقة المتبادلة والعلاقات الراسخة والمستقرة البعيدة عن التقلبات والأهواء الوقتية.
ورغم أن الرئيس التركي أعرب عن استعداده للتعاون مع إسرائيل في مشاريع الغاز وأمن الطاقة، وقوله: "إذا كان للغاز الإسرائيلي أن يصل إلى أوروبا، فلا يمكن أن يتم ذلك إلا عبر تركيا. يمكننا الجلوس والتحدث عن الشروط".
ورغم أن موضوع مشروع خط الأنابيب الذي يهدف إلى نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عن طريق تركيا كان أهم القضايا التي طرحها الجانب التركي خلال زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لأنقرة في مارس الماضي، إلا أن هناك من يدعو في إسرائيل للحذر الشديد في التعامل مع أردوغان، وهناك من يجادل بأنه ربما يكون غير جدير بالثقة، وأن عليه الكثير للقيام به لإعادة بناء الثقة التي يبنى عليها التحالفات الكبرى والمشروعات الاستراتيجية الضخمة.
والسؤال هنا سيكون عن مدى التنازل الذي سيقدمه الجانب التركي في هذا الصدد ومدى تلبيته للمطالب الإسرائيلية، أيضا هناك من يستبعد في تل أبيب إمكانية عودة العلاقات مع تركيا إلى سابق عهدها، دون الحصول على ضمانات تركية تتعلق بتغيير أردوغان لسياسته الحادة وتصريحاته القاسية تجاه إسرائيل، والتي كانت سببا لانقطاعات وشروخ عديدة في علاقة البلدين خلال السنوات السابقة، وهي مشكلات لم تكن بين إسرائيل وتركيا بقدر ما كانت بين الحكومة الإسرائيلية وأردوغان شخصيا، وهو ما عبرت عنه كثير من الأصوات الإسرائيلية المؤثرة، من بينها السفير الإسرائيلي الأسبق في مصر، إسحاق ليفانون، الذي كتب في صحيفة "معاريف" في الخامس عشر من فبراير الماضي قائلا: "لا أعتقد أن ثمة مشكلة لإسرائيل مع الدولة التي تسمى تركيا، فوزنها الاستراتيجي ودورها الإقليمي واضحان. لكن لدى إسرائيل مشكلة مع من يقف على رأس هذه الدولة، الرئيس أردوغان"، متسائلا في مقاله: "هل يعتزم الرئيس التركي بمغازلاته العلنية لإسرائيل تغيير سياسته وتصريحاته أيضا؟".
وفي ظل عدم وجود تغير جوهري في السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين وتوقع تكرار ما تسبب في الشروخ والأزمات المتتالية التي عصفت بعلاقة البلدين وفقدان الثقة بينهما خلال السنوات الماضية، ستكون تصرفات أردوغان وتصريحاته وردات فعله تحت المنظار الإسرائيلي، وسيكون التقارب الحقيقي بين البلدين وطي صفحة الماضي وعودة الثقة المفقودة بينهما مرهونا بتغير حقيقي في مواقف الرئيس التركي تجاه البلد الذي يسعى لبناء علاقات مصالح استراتيجية كبرى معه تتجاوز مسألة التعاون الاقتصادي التقليدي أو التبادل التجاري الذي لم يتأثر بالخلافات السابقة.