لم يكن الحداثويّون المتطرّفون، ممّن يحملون نظرةً عدميّةً احتقاريّةً إلى الماضي والموروث التّاريخيّ، وحدهم مَن أفسدوا علاقة العرب والمسلمين بتراثهم الفكريّ والحضاريّ وشنّعوا عليها، وعَدُّوها كابحاً أمام التّقدّم بل شاركهم في ذلك غيرهم وإن بدواعي وأشكال مختلفة.
ينتمي هؤلاء الآخرون إلى فئتيْن: فئة التّراثيّين المحافظين المنغلقين في منظومات معارفهم التّقليديّة، وفئة الكتّاب الغربيّين المعادين للإسلام والعرب والمسلمين والذّاهبين إلى تلويث صورتهم من طريق تصويرهم مُعادين للحضارة وقيم العصر.
ما من شكّ في أنّ الحداثويّين العَدميّين (خَدائِج الحداثة الذين لم يكتمل وعيُهم بها) فَتَكُوا فتكاً بالكثير من الوعي التّاريخيّ العربيّ حين صادروا التّاريخ من الوجود العربيّ، ومزّقوا روابط هذا الوجود بذاكرته الحضاريّة، في غمرة اندفاعهم نحو التّبشير بقيم ثقافيّة جديدة تشترط قطع الصّلة بكلّ الموروث الثّقافيّ. وهم في دعواهم لم يفعلوا أكثر من التّبشير بنموذجٍ للحداثة لم يكن - مثلما تخيّلوه - عدميّاً تجاه ماضيه، ولم ينصرف بُناتُه إلى القدْح في الموروث والتّشهير به وتجاهُله واطّراحه جانباً، أو القذف به في المزبلة. لذلك هُم لا يشبهون، في شيء، الحداثيّين العرب الأقحاح الذين لم يخاصموا تراثَهم ولا أَزْرَوا به وأنكروه. ومع التّسليم بِعِظَم ذلك الفتك الحداثويّ وفداحته، لم تكن أضرارُه لتكون أخفَّ وطأةً من الأضرار النّاجمة من أفكار الفئتين المومأ إليهما وبرنامج عملهما.
ما كان التّراثيّون أحرصَ على التّراث من حداثيّين آخرين درسوه بعقلانيّة وبأدوات المعرفة الحديثة. هُم تراثيّون فقط لأنّ عقلهم ينتمي إلى زمن التّراث لا إلى زمنهم؛ وهُم تراثيّون يقدّسون التّراث ويرفعون كلام القُدامى إلى مرتبة العِصمة والحقّ المطلق، ذاهلين عن أنّ ما قاله القدماء وكتبوه ليس وحياً منزّلاً بل اجتهادٌ منهم أَمْلَتْه ظروفُهم وشروطُهم التّاريخيّة، وما كان متاحاً لهم من معارف عصرهم. إنّ تبجيلهم للتّراث - بعُجَره وبُجَره - فعلٌ "فكريّ" غير تاريخيّ بحسبانه لا يَلْحظ اتّصال اجتهاداتهم بعصرهم وزمنهم التّاريخيّ، وهي اجتهادات لا تُلزِم المعاصرين في شيء، ولا سلطانَ وصايةٍ لها عليهم؛ لأنّهم مدفوعون إلى الإجابة عن إعضالات زمنهم الجديد التي لم يعرفها القدماء ولا عَرَضتْ لتفكيرهم.
والحقّ أنّ هؤلاء المحافظين التّقليديّين يسيئون إلى التّراث العربيّ الإسلاميّ بمقدار إساءة الحداثويّين العدميّين إليه؛ فلا شيء يعادل النّظرةَ التّحقيريّة إلى التّراث سوءاً وفساداً مثل النّظرة التّقديسيّة التّبجيليّة إليه عند التّراثيّين؛ فكلاهما يُخطئ ميزان تقديره التّقديرَ المناسب. وثمّة مصدر ثان لفساد عمل التّراثيّين، هو أنّهم وبسبب عقلهم المغلق وثقافتهم النّصيّة الاجتراريّة - التي تجعلهم يردّدون أقاويل القدماء تَرداداً ببّغائيّاً وكأنّهم يلهجون بالحقائق - ينقلون ثقافتهم المغلقة والضّحلة، هذه، بدروسهم في المدارس وكتاباتهم في الكتب والصّحائف، إلى جمهورٍ واسعٍ من المتعلِّمة يَرْبَى عليها ويتشبَّع بقيمها فتنشأ لديه ذهنيّةٌ هي ذهنيّة التّقليد والاجترار. ونحن نعرف، على التّحقيق، ما تبِعات ذلك وعقابيله. يكفي أنّه خرج من جوف هذا الجيش العرمرم من الجَهَلَة بالتّراث، المردّدين لأقاويل الأقدمين، قسمٌ كبيرٌ من الغُلاة والمتشدّدين يستسهل تكفيرَ النّاس وحمْلَ السّلاح واقترافَ المنكَر في مجتمعات الإسلام باسم "الجهاد"!
ويصُبّ ما يفعله المعادون للإسلام والعرب من أهل الأقلام في ديار الغرب في رصيد هذه الحملة الأخطبوطيّة على الإسلام وتراثه الثّقافيّ والحضاريّ. لا يفعل هؤلاء، من جهتهم، سوى تصنيع الأكاذيب، وأكثرُهم لا يعرف من تراث الإسلام شيئاً. يكتفون بتلفيق المماهاة بين الإسلاميّين المتطرّفين والتّكفيريّين، من جهة، والإسلام من جهةٍ ثانية لإيهام جمهورهم الغربيّ بأنّ هؤلاء ليسوا سوى الثّمرة الطّبيعيّة لدينٍ يحُضّ على كراهيّة الآخر، ويقدّس العنف ويدعو إليه. وصحيحٌ أنّ الأفعَال النّكراء للجماعات الإسلاميّة المتطرّفة التي تقترفها، في ديارها كما في مجتمعات الغرب، تقدّم لهؤلاء الموتورين الذّرائع الكافية لإقامة البيّنة على الإسلام من بعض معتنقيه، ولكنّ هؤلاء كان يسعهم، دائماً، أن يعثروا على الذّرائع حتّى وإنْ لم تكن هناك أصوليّة إسلاميّة متطرّفة. بل كان يكفيهم أن يعيدوا إحياء كمٍّ هائل من الصّور النّمطيّة التي كوّنها الغربيّون عن الإسلام، منذ العصور الوسطى، وينشروها مستفيدين من وسائل الإعلام ووسائط التّواصل الإلكترونيّ للتّحريض عليه - واستطراداً على العرب والمسلمين - في مجتمعات الغرب.
أكثر هذه الأقلام الغربيّة ينتمي إلى وسائل الإعلام المكتوبة والمرئيّة، وإلى مراكز دراسات متخصّصة في شؤون العالميْن العربيّ والإسلاميّ. وهي لا تعرف من تراث الإسلام عُشُر ما كان يعرفه المستشرقون في القرنين التّاسع عشر والعشرين؛ إذِ الإسلام عندها لا يعدو أن يكون مجسَّداً في الحركات السّياسيّة- الإسلاميّة، وتراثُه - عندها- لا يجاوز تلك الأدبيّات الحزبيّة الضّحلة التي ينشرها الإسلاميّون عن الشّريعة والدّولة المحكومة بالشّريعة، والجهاد، والمرأة، وأحكام الرّدّة وما أشبه. وعلى مثال ضحالة ثقافة هؤلاء الأصوليّين وأساتذتهم المحافظين، تُفصح ثقافة هؤلاء الكتّاب الغربيّين عن فقرٍ مدقِع لم يكن مثلُه من مألوفات الثّقافة الغربيّة!
لا يُفسد هؤلاء نظرة الغربيّين إلى تراث الإسلام فحسب، بل يزيدون على ذلك بإفسادهم علاقة العرب والمسلمين بتراثهم؛ سواءٌ الذين يتأثرون منهم بما يكتبه هؤلاء؛ أو الذين تدفعهم هذه الحملة إلى التّعبير عن مواقف "اعتذاريّة" عن الانتماء إلى عالم الإسلام!