وأول عرف في حق الميتة هو وجود تركة. تركة موروثة عن فقيد. تركة مترجمة في حرف ملكية. في حرف ممتلكات مادية. فخيار الحضور في بُعد الحرية، الذي نسميه في معجمنا منية، أو ميتةً، هو التعبير الصريح عن موقف.

موقف من الملكية. موقف عدمي من الملكية. ولهذا السبب كانت الملكية منذ الأزل حجر الزاوية في تحديد هوية. هوية إنسان الاستقرار، بالمقارنة مع هوية قرينه إنسان الارتحال، الذي ليس له أن يمتلك من دنيا باطله شيئا باستثناء متاعه.

متاعه؟ الواقع أنه المخلوق الوحيد الذي يستطيع أن يستغني حتى عن المتاع، في حمى بحثه الحميم عن بُغيته الأبدية. فالملكية، في ناموس إنسان الاستقرار، مملوكة، وليست مهجورة. ليست متروكة. أي أنها ليست تركة كما في حال إنسان الرحيل.

وأن تكون مملوكًة سوف يعني أنها مالكة. وقوعها في قبضة صاحب شأن، يعني وقوع صاحب الشأن في قبضتها. وهنا تكمن الدراما الأخلاقية، لأن الملكية في هذه الوضعية تتحول مالكا، في حين لا يضمن صاحبها أن يجد نفسه مملوكا. ولهذا تتغنّى أدبيّات التصوّف بالوصيّة القائلة: "كل مالكٍ مملوك". فالمالك مرتهن. المالك رهينة ما يملك. وهذا الارتهان هو ما يفزع مريد الرحيل، فيفر من واقع مجتمع يدين بدين الملكيّة. أي أنه فرار من علاقة. علاقة مفروضة بهيمنة الملكيّة، سواء أكانت ملكية عقار أو مال.

المال بصيغته، الناطق أو الصامت. وهو ما يعنيه الثعالبي عندما يقول: "كل مالٍ ناطقٍ أو صامتٍ فهو علاقة". اختزال العلاقة في امتلاك المال، بهويّته الناطقة أو الصامتة، هو ما يشكّك مريد الحرية في حقيقة مجتمع لم يعتمد في وجوده بنود العقد الاجتماعي إلا للإيقاع بالأبرياء، والاحتفاظ بهم في الزريبة رهائن، بداية من مهدهم حتى لحدهم، فلا يملك المريد إلّا أن يتخلّى عن الامتلاك، ليلوذ بالفرار، ليسلّم زمام أمره للطبيعة.

هذا الموقف الحاسم، العدمي قطعا، من الملكية، هو ما يستنزل في المريد ماهية الفقيد قيد الحياة، ليغدو العقار من بُعده طلولا، والمال، سواء الصامت أو الناطق، تركةً، تستوجب وجود الورثة، والواقع المهجور، من قبل صاحب الشأن، يصير يبابا، ضربا من منفى، حق للأغيار أن يقرأوا في حق الفقيد أوراد الرحمة.

هذا في حين يرى المهاجر في هذا الفقد ميلادا. يرى الفقد بعثا، لأن الحرية، التي تحققت بفضل الميتة، هي منذ الآن خلاصه. هي فردوسه الموعود. بل هي فردوسه المستعاد، الذي لا يحتاج فيه لامتلاك غنيمة، حتى لو كانت مجرد قوت، فلا يضطر لأن يكنّز، أو يدّخر لغدٍ لا يعوّل عليه، لأنه لا يعود يحيا الزمن الفاني، ولكنه يحيا الأبدية. يحيا الزمن الميثولوجي، الذي لا وجود فيه لماضٍ، أو حاضرٍ، أو مستقبلٍ، لأنه لا يخطو في واقع حضيض، ولكنه يتنقّل في الحرية، حيث ستتكفل الطبيعة بقضاء كل ما متّ بصلة لحوائجه المعيشية، بموجب بنود العهد المبرم معها كأم: أم تهدهد في بطنها جنينا اسمه العالم، وتنصّب في أرباعه الصحراء وطنا للرؤى السماوية!.