مع رغبتنا جميعاً في السلام بين الجارتين وانتهاء القتال بأسرع وقت، إلا أن أوكرانيا، الدولة المستقلة، جارة بوتن الحالية، والجمهورية السوفياتية السابقة، تشهد دعماً معلناً من قبل كامل جوارها الغربي، لكن ما يقدم لها من دعم فعلي يبدو مشفراً في تخبطه وعدم واقعيته، تماماً مثل القناعات المبهمة التي تجعل من رموز NFT المشفرة غير القابلة للاستبدال سلعة رائجة بين أثرياء الجيل الرقمي المتأصل في ثقافته الشبكية أكثر من واقعه المعاش، والذي يحدوه الحماس لإضفاء قيمة فلكية على لوحة افتراضية والمزايدة على سعرها أكثر من إنفاقه على ضرورات معيشية ذات أولوية أو دفع الأموال لأهداف نبيلة يعد شراء رمز NFT ترفاً عبثياً مقارنةً بها.

ما يفعله ساسة الغرب من فرض طفولي لثقافتهم النابعة من تطرف "لبرلة" علم الاجتماع السياسي، مدعوماً بتفوق علمي اقتصادي وسلع ثقافية رائجة، ممزوجاً بهجمة ضد الوعي الأوكراني للتزهيد في النموذج التاريخي من جهة والترويج لمستقبلها كعضو في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كان الأجدر عوضاً عنه أن يحال دون حالها الراهن كقشة قصمت ظهر الصبر الروسي لتكون دولة محايدة بضمانات يتفق على ازدهارها الجار الروسي في الشرق قبل سائر الجيران في الغرب.

لكن تراكمات للقناعات المزمنة المؤصلة لدى الساسة الأميركان بلغت ذروتها في الاندفاع وسوء حساب العواقب عند إدارة الرئيس بايدن الحالية. ما انفكت أميركا تنظر إلى أوروبا كمشروع مارشال مستدام ومتصاعد منذ إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية. نفس الوصاية في زفير متواصل من صدر العالم الجديد تجاه القارة العجوز، وتجزئة وتوقيت ابتلاع الكتلة الشرقية في عضويات السوق الأوروبية المشتركة والهيكل الأمني لحلف شمال الأطلسي هي عملية مطولة شابتها جرأة متهورة وعدم احتساب للتوجس الروسي من النوايا الدفاعية الظاهرة، ولم ينتظر بوتن النوايا الهجومية المبطنة.

القوات المسلحة الأميركية في الفترة الحالية تحرس مصالح الدولة التجارية أكثر من حدودها الوطنية، وحلف الناتو يراد له ضمنياً أن يكون قفازاً أوروبياً ليدٍ أميركية تساوم على مصالح روسيا التجارية من موقف الأفضلية للمصالح اليورو-أميركية، في موقف أكثر اندفاعاً وتهافتاً من مثيله مع الصين، في حرب تجارية يوجب فيها بايدن الامتثال على الجميع وهم صاغرون، وبصورة لا تحقق الدعوى الظاهرة لسلفه دونالد ترامب، صاحب دعوى الوظائف للأميركان وشعار "أميركا أولاً".

في عالم رموز NFT وواقع الميتافيرس الافتراضي الذي يضمها، يأتي أطفالٌ إلى ذويهم لنيل المصروف الذي سيشترون به أطعمةً وملابساً وهمية، لشخصياتٍ رقميةٍ مصطنعة، ويُقتطع ذلك المصروف من أموال كان بإمكانها إطعامهم وكسوتهم، أو بإمكانهم وذويهم ادخارها لأمورٍ أهم بكثير. أما في الغرب الواقعي، فيُراد لأوكرانيا أن تفتح جغرافيتها لاستيعاب أجراس إنذار "ناتوية" في لعبة الأمم، تستفز بها روسيا، التي لا تنقصها الرقعة الجغرافية بتاتاً دون دول العالم قاطبة، ولكن ينقصها "الاحترام" الجيوسياسي، كما أشار قبيل هذا التسارع في حراك الجبهات قائد البحرية الألماني المستقيل الأدميرال كاي-أخيم شونباخ.

منح الغرب لروسيا مبرراً صارخاً لشن حربٍ استباقية، ويسعى لعلاج الخطأ المزمن بعقوباتٍ متطرفة ومتسرعة ومع الوقت ستكون مذلة لروسيا النووية إن نجحت، فهل فعلاً يريد الغرب "هتلرة" بوتن، وهل عقوبات أوكرانيا شبيهة بشروط اتفاقية فرساي؟ أرجو ويرجو العالم أن تخطئ هذه الفرضية.