7 ـ مراثي النفع (الخبز الميّت)
مريد الهجرة عدوّ النفع. عدوّ النفع بالسليقة، سيّما النفع بصيغته الملوّثة بروح الغشّ، كما الحال مع اقتصاديات المجتمع العمراني، المترجم في حرف ما اعتدنا أن نسمّيه تجارة.
فما معنى الصفقة التجارية إن لم تكن عملاً موسوماً بالإثم؟ إثمٌ نجد له أرومة في أوّل تجربة اقتصادية في تاريخ الجنس البشري، عندما أفضى تراكم الإنتاج الزراعي، في واقع الإنسان السومري، إلى نشوء الحاجة لتصريف هذا الفائض على الحاجة، فإذا بشبح "تامكارا" يسطو على الغنيمة النفيسة، باقتنائها من الفلّاح بأبخس الأثمان، ليقوم ببيعها خارج السوق بأعلى الأسعار، مفتتحاً بذلك أول حرف في معجم الغشّ، لم تجد الأمم تالياً مفرّاً من الإعتراف به في تشريعاتها الدنيوية، برغم موقف الشرائع السماوية المبثوث في ثنايا هذه المفردة الغامضة، التي تحمل حكم التحريم في الدلالة البدئية، لا بوصفها برهاناً على ممارسة صفقة تجارية كما ورثناها من ألسنة التجّار. فباستنطاق اللسان البدئي نكتشف المعنى الأصلي وهو: البليّة، أو الخدعة، أو المكيدة، كنايةً عن عملٍ يبدو اقتصادياً صريحاً، ولكنه يُخفي في حقيقته مؤامرة.
من "تامكارّا"، هذه ورثنا إسم "مكر" الدالّ في العربية على: الخبث، ولكنه في السنسكريتيّة، وكذلك في الليبيّة القديمة (كما لا يزال مستخدماً في لغة أهل الصحراء الكبرى)، إنّما يعني: اللصّ! ليستنزل في حقّ التاجر بصمة ممارسة اللصوصيّة في العملية التجارية.
ويبدو أن هذه اللعنة هي هاجس الاسبارطيين، الذين لم يخطئوا، كما يروي بلوتارخ، عندما حرّموا على شعبهم ممارسة التجارة. ولو لم يفعلوا لما أفلحوا في إتقان فنّ النصر في الحروب، لأن البطولة، وحبّ الربح لن يجتمعا لا على المستوى النفسي، ولا على المستوى العملي، في سيرة أي مخلوق يدمن الاحتيال، في وقت برهنت فيه التجربة أن الشجاعة موهبة ملفّقة من روح الزهد.
وعندما يستنزل أهل الرحيل بنود التحريم في ممارسة مهنة كالتجارة، فإنهم يترجمون موقفاً مبدئيّاً معادياً، لعمل لا أخلاقي كالصفقة التجارية، المسكونة بروح الكيد. فالمباح في عرفهم هو حقّ حماية القوافل التجارية، العابرة للقارّة الصحراوية، من حملات قطّاع الطرق، مع وجوب تحصيل الرسوم الرمزيّة، مقابل الحماية. أقول رمزيّة لأن هذه العوائد الزهيدة كثيراً ما تنفَق على شئون القوافل، وعلى القائمين على أمر هذه القوافل، الذين يُعامَلون، من قبل القبائل، كأضياف!
ويروي ليون الإفريقي (الحسن الوزّان) كيف كان سادة الصحراء الكبرى، في القرون الوسطى، ينفقون أموالاً طائلة على أهل القوافل، تزيد أضعافاً على قيمة ما يتلقّونه منهم من رسوم! ومن الطبيعي أن يتنكّر الإنسان الطبيعي، المسكون بالقيم الأخلاقية البرية، أو فلنقل الطبيعية، لتعاطي النفع، الناجم عن اقتصاد، لم يتطهّر بعنصر مقدّس هو عرق الجبين، فيفرّ من واقع يهيمن عليه هذا الشبح البغيض، ليستبدله بواقعٍ اقتصادي شحيح حقّاً، ومعدم أحياناً، ولكنه يبقى نزيهاً، يبقى طبيعيّاً، يبقى محتملاً، بسبب لمسة الربّ، المبثوثة في منح أرضٍ مشفوعةٍ بنزيفٍ زهديٍّ، تجود بقوتٍ سخيّ، سخيّ لا لشيء إلّا لأنه نقيّ، بالمقارنة مع قوت العمران الميّت!
فإنسان الرحيل هو من يرتضي التضحية بالغنيمة، مقابل أن يجني بالخلوة القيمة. قيمة تسري في منطق النبوّة. يكفي أنه يحيا واقع سكينة. يكفي أنه يحيا واقع طمأنينة. يكفي أنه يحيا واقع الحقيقة. يكفي أنه يحيا واقع الحرية.
أوَ ليست الحرية هي بشارة كل نبوّة؟