عندما نستنزل روح الميثولوجيا في سليل الصحراء فهذا سيعني أنه نموذج لازمنيّ، وكذلك نموذج لامكانيّ. فزمن الصحراء ليس زمناً تقليدياً خاضعاً لقسمة الثالوث الشائع المترجم في حرف الأمس واليوم والغد، ولكنه زمنٌ مطلق. ماذا سيعني أن يستعير الزمن روح المبدأ المطلق؟

ذلك سيعني أنه زمن عدميّ، يستوعب أبعاد الثالوث الثلاث، ليكون في مأمن من دوّامة التحوّل الأبدىّ، ذات البعد الدائريّ. ولهذا السبب لا يجب أن نتوقّع حدوث الجديد في الصحراء. ولهذا أيضاً تترنّم الصحراء بأنشودة الخلود، المترجمة في صيغة ذلك الإلهام الغامض، الذي يوحي بحقيقة طينتها كمسقط رأس تكوين. وهي بصمة ينطق بها المكان أيضاً، لسببٍ بسيط، وهو أنه ليس مكاناً بخصال المكان، ولكنه المكان الذي اغترب عن المكان.

والمكان لا يغترب عن المكان لمجرّد أنه مهجور، ولكن بسبب غياب رأس الحجج في هوية المكان، وهو حضور أمّ العناصر الطبيعية: الماء!

فوجود التراب وحده ليس مبرراً كافياً لانتحال مفهوم المكان. من هنا حَقَّ للمكان الصحراوي أن يتغنّى بماهيّته الميثولوجيّة، لأن البُعد الغيبي فيه أقوى حضوراً من بعده الحرفيّ، من بُعده كواقع أرضيّ. ولولا وجود هذه الخاصيّة لما صار المكان الصحراوي طارداً للآخر، وعدوّاً لدوداً للعلاقة.

وأن يتحلَّى سليل الفيافي بروح عدميّة لا يعني تجديفاً في حقّ الأبديّة، بل العكس. فهو إنسان ديّن بعمق. ديّنٌ بالفطرة. ولذا فهو مسكون بإيمانٍ صريح. هذا الإيمان هو ما يراهن عليه مدمن مفاوز اللابداية واللانهاية، فيتطلّع إلى وجودٍ يجود به ما وراء الأفق. يجود به اليقين المكين بهيمنة المعبود في واقع الحقيقة المغترب عن واقع برأسمال الباطل.

فالنموذج الصحراوي وحده يرفل في نعيم جنّته، يحيا واقع فردوسه، وليس في حاجة لأن يحلم بوجود فردوس موعود، لأن التحرر من العلاقة، والتنصّل من سلطة يفرضها منطق الوجود في ظلّ العلاقة، هو ما يحيل الفردوس المفقود، فردوساً مستعاداً، فردوساً معاشاً. وهو، كأيّ طيف، دَيدَن ملفّق من حدس، وليس من حسّ. 

 5 ـ الإنسان الدولة

سليل الصحراء وحده ليس في حاجة لاجتراح تجربة تغيير ما بالعالم، لأنه وحده أفلح في أن يغيّر ما بنفسه، لكي لا يعود في حاجة للدخول في مذبحة تغيير ما بالعالم، لسببٍ، وهو أنه وحده يحيا خارج واقع هذا العالم.

 فهو استطاع أن يروّض النفس على احتمال ما لا يُحتمل، لكي يحقق بطولة أن يعرف. يعرف ما بنفسه. يعرف المعرفة الوحيدة التي أهّلته لأن يعرف ما بنفسه، لكي يتمكّن بفضلها من تغيير ما بنفسه، ليحقق معجزه تغيير ما بالعالم، دون حاجة للدخول مع العالم في خصام مشفوع بثمن جسيم هو نزيف الدمّ!

وهي تجربة تمرّ عبر جحيم تنوير، قبل أن تتحوّل في صيغة تثوير، لتستقيم في بُعْد التطوير. فالإنسان السارح في البراري، الحامل متاعه على ظهره، وحده منذورٌ للتغيير، لأن الإنتقال الدائم هو ما يحوّل التغيير، في حياته، قدراً. فهو لا يكتفي بأن يتنكّب متاعه في سفره الأبديّ، ولكنه يحمل في الواقع دولته على ظهره. دولة مدجّجة بكامل الصلاحيات، وثريّة بمختلف الاختصاصات، ولا ينقصها، كي تتحوّل، في مسيرته تاجاً فاتناً، سوى الاعتراف بما كان في منطق الأمم مجرّد مراسم ترف، وإلّا ماذا يمكن أن نسمّي الإنسان الذي يتولّى تدبير قوْته بنفسه، ولا ينتظر عوناً يأتيه من خارج كي يؤمّن له أمنه، أو أمن عائلته، ولا يعوّل على وجود قوّة تحقق له العافية في حال انتابه مرض، كما لا يأمل أن يستقبل في رحابه متطوّع يستعين به في تصريف شئونه الدنيويّة؟

إنها الحوائج التي نتخيّل أن لا غنى لنا عنها، تستدرجنا كي نتنازل عن حريّتنا مقابل ثمن بخس (!) هذا في حين يأبى من اعتاد تعاطي السفر إلّا أن يضحّي بحوائج يدري يقيناً كم هي بعبعٌ زائف، لأنه جرّب أن الترياق في شأنها يكمن في قبول التحدّي، فإن خذله التحدّي، فبالإستغناء عنها. فالمواطن، عندما يقرّر أن يتحرر من هويّة المواطنة، ليس له إلّا أن يتحرّر، كي يختزل الدولة في شخصه، فلا يبقى منذ الآن مواطناً، ولكنه يغدو هو الوطن.. وطنٌ، ولكنه مرتحل!