سيناريو إخضاع أوكرانيا للنفوذ الروسي لا يبدو طارئا أو متعجلا، وإنما يسير وفق خطط مدروسة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، وقد أصبح سياسة روسية تزداد وضوحا بمرور الزمن، خصوصا بعد تولي فلاديمير بوتِن السلطة في روسيا عام 2000، إثر استقالة بوريس يلتسن المفاجئة.

لم يتخلَ بوتِن منذ وصوله إلى السلطة، ويؤيده في هذا المنحى معظم القوميين الروس، عن حلمه بتوسيع نفوذ روسيا، ليشمل أوكرانيا وبلاروسيا، باعتبارهما الأقرب ثقافيا وجغرافيا إليها. وفي الوقت الذي انصاعت فيه بلاروسيا للطموحات الروسية، في عهد الرئيس ألكساندر لوكاشينكو، برهنت أوكرانيا على أنها عصية على الاندماج، أو حتى الانسجام مع روسيا، وأن لها هوية وطنية مستقلة، وأنها لا تعتزم أن تكون دولة بالاسم فقط، تسيِّرها روسيا، وإنما دولة مستقلة، ترسم سياساتها بنفسها وفق مصالحِها. وفي هذا درس لبعض الدول. فلا خير في العلاقات الثقافية والدينية والقومية إن لم تخدم المصالح المشتركة وتحفظ السيادة كاملةً غير منقوصة.

لقد سعت أوكرانيا حثيثا لتعزيز استقلالها، فأقامت علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، وهي تطمح أن تكون عضوا فعالا في المجموعة الأوروبية، ثم في حلف الناتو، وأصبحت عضوا في مجلس التعاون لشمالي الأطلسي (NACC) والشراكة من أجل السلام (PfP)، وهو برنامج يهدف إلى تعزيز الثقة بين حلف الناتو ودول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق. طموحات أوكرانيا الوطنية، وسعيها لعضوية حلف الناتو، والتزامها الديمقراطية نظاما للحكم، تقلق روسيا كثيرا، وهو السبب في توتر العلاقة بين البلدين منذ عام 2014، والتي أصبحت الآن على شفير المواجهة العسكرية.

الأدلة على المخططات الروسية لضم أوكرانيا إلى منطقة نفوذها، ليست خافية، بل اتضحت فور انهيار الاتحاد السوفيتي السابق عندما أقدمت روسيا على لملمة شتات الإمبراطورية السوفيتية المنهارة، وتشكيل مجموعة دول الكومونولث المستقلة (CIS)، التي ضمت كلا من روسيا وأوكرانيا وبلاروسيا، ابتداءً، ثم توسعت لتضم دول الاتحاد السوفيتي السابق، باستثناء ثلاثٍ منها، هي لاتفيا وإستونيا ولتوانيا.

وعندما يئست روسيا من ثني أوكرانيا عن التعاون الوثيق والتقارب المتواصل مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والسعي الحثيث لنيل عضوية الناتو، سلكت نهجا آخر لإضعاف أوكرانيا عبر تشجيع المواطنين الأوكرانيين من القومية الروسية في شبه جزيرة القرم على التظاهر والمطالبة بالانضمام إلى روسيا. وبعد اندلاع تلك التظاهرات، أرسلت روسيا مسلحين ملثمين من القوات الخاصة للسيطرة على برلمان شبه جزيرة القرم، ودفعه لإقرار استفتاء حول مستقبل الجزيرة، بينما كانت القوات الروسية تطوقها.

وقد أظهرت نتائج الاستفتاء، المشكوك بنزاهته عالمياً وأوكرانياً، بل حتى روسياً، أن 83% من سكان الجزيرة صوتوا لصالح الانضمام إلى روسيا! بينما قالت مصادر روسية إن نسبة الذين صوتوا لصالح الانضمام إلى روسيا تتراوح بين 15-30% فقط. بينما قرر البرلمان الأوكراني حل برلمان الجزيرة واعتبار قراره غير شرعي لأنه واقع تحت ضغوط عسكرية روسية.

وفعلا قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم كجمهورية روسية، بينما أعلنت عاصمتها، سواستوبول، مدينة فدرالية روسية. هذا الإجراء أدين عالميا، وعلى إثره أقصيت روسيا من مجموعة الدول الثماني الصناعية وفُرِضت عليها عقوبات دولية، لكن بوتِن لم يكترث، فبالنسبة إليه، تحقيق الحلم أهم من أي اعتبار آخر، خصوصا وأنه يعلم أن أوروبا تعتمد على صادرات روسيا من الغاز، الأمر الذي دفع الحكومة الألمانية في ظل قيادة أنجيلا ميركل، لإبرام اتفاقية (نورد ستريم2) لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا.

الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية أثارت غضبا واسعا في أميركا وأوروبا، خصوصا من بريطانيا والولايات المتحدة. وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، هددت بعواقب وخيمة إن أقدمت روسيا على التدخل عسكريا في أوكرانيا، وقالت إن أي احتلال سوف يلقى مصير المغامرات الروسية السابقة، ووعدت بنشر قوات بريطانية في أوروبا الشرقية وتسليح المقاومة الأوكرانية لأي تدخل روسي.

يذكر أن هناك معاهدة أُبرِمت في بودابست عام 1994 ضمت أوكرانيا وبريطانيا والولايات المتحدة وروسيا، تقضي بالدفاع عن أوكرانيا وصيانة سيادتها ووحدة أراضيها، مقابل تخليها عن السلاح النووي. وإن كانت البلدان الغربية قد تساهلت قليلا في مسألة احتلال جزيرة القرم، التي كانت جزءا من روسيا حتى عام 1946 عندا ألحقها الزعيم الروسي، نيكيتا خروشوف، بأوكرانيا السوفيتية، فإنها لن تقف متفرجة أمام احتلال روسيا لدولة ديمقراطية ذات سيادة.

الولايات المتحدة أعلنت أنها سوف تفرض عقوبات قاسية على روسيا إن هي أقدمت على أي عمل عسكري في أوكرانيا، تتجاوز بكثير العقوبات التي فرضتها عام 2014 إثر ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وأنها سوف تبدأ "من أعلى سُلَّم التصعيد"، أي التدخل عسكريا. وقد أُعلِن أن 8500 جندي أميركي على أهبة الاستعداد الآن للتدخل في حال اجتاحت القوات الروسية أوكرانيا. كما أعلن مسؤول أميركي أن هناك مساع أميركية وأوروبية للبحث عن مصادر بديلة للطاقة، كي تتمكن أوروبا من الاستغناء عن وارداتها من الطاقة الروسية.

الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي يواجه انتخابات رئاسية خلال ثلاثة أشهر، بدأ بمبادرة دبلوماسية لحل الأزمة، وتحدث هاتفيا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتِن والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حول سبل التوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة، لكنه يواجه مصاعب متشعبة الأبعاد في هذا المسعى.

فهو من ناحية، يحاول أن يُظهِر لناخبيه بأنه قائد أوروبي قدير، يمكنه أن يلعب دورا محوريا في حل الأزمات الدولية، كي يعزز فرص إعادة انتخابه في أبريل المقبل. ومن ناحية أخرى، لا يمكنه أن يتجاهل المصالح الألمانية الوثيقة مع روسيا في أي حل يطرحه لتسوية الخلاف، خصوصا مشروعها الطويل الأمد (نوردستريم 2)، بالاعتماد على الغاز الروسي. يحتاج ماكرون كي ينجح في مساعيه الدبلوماسية (ويعزز من فرص فوزه) لأن ينسق جهوده مع حليفته الأوروبية القوية في ظل مستشارها الجديد، أولاف شولتز، الذي لا يعرفه جيدا كما عرف سلفه، المستشارة السابقة، أنغيلا ميركل.

ومن ناحية ثالثة، يحاول ماكرون أن يطمئن الولايات المتحدة، التي تشوب العلاقة معها شوائب كثيرة، تأريخية ومعاصرة، خصوصا بعد حصول الولايات المتحدة على عقد الغواصات الأسترالية على حساب فرنسا، وردة الفعل الفرنسية الغاضبة، بأن فرنسا متمسكة بالتزاماتها في حلف الناتو وأن جهودها لحل الأزمة الأوكرانية-الروسية دبلوماسيا لن تتعارض مع السياسة الأميركية ولن تكون على حساب المصالح والالتزامات الأميركية تجاه أوكرانيا.

ولكن هل يتمكن ماكرون حقا من أن يجترح حلا وسط هذ التناقضات؟ وهل يمكنه أن يحقق الحد الأدنى مما تطالب به روسيا، وهو خفض التسلح الغربي في أوروبا الشرقية ومنع أوكرانيا من الدخول في حلف الناتو، في حين تسعى كييف حثيثا للتقارب مع أوروبا والتعاون مع الناتو؟

قدرة ماكرون على حل الازمة تبدو محدودة، لأنها تصطدم بعوائق شتى، خصوصا بوجود الحشود العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية، واستعداد الولايات المتحدة وبريطانيا للوقوف عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا مع أوكرانيا. التضارب في المصالح الروسية والأوكرانية والأميركية والفرنسية والأوروبية، وصل إلى حد يجعل نجاح المبادرة الفرنسية صعبا، لكنه ممكن إن اقتنع الفرقاء، خصوصا روسيا، بضرورة إيجاد مخرج معقول للأزمة، كبديل للمواجهة العسكرية التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها.

رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الذي يواجه مصاعب سياسية تتعلق بنزاهته ومخالفته، هو وفريقه الحكومي، قانون الإغلاق الصحي عام 2020، واحتمال تقديمه معلومات كاذبة للبرلمان، وهو أمر خطير لم يسلم منه سياسي بريطاني حتى الآن، يقوم بزيارة إلى بعض أوروبا الشرقية في محاولة لكسب الدعم لأوكرانيا في مواجهتها مع روسيا. مرة أخرى، وكما هي الحال في فرنسا، فإن السياسة الداخلية تلعب دورا في تقرير السياسة الخارجية، فنجاح جونسون في مساعيه الأوروبية سوف يعزز من فرصه بقائه في منصبه.

لكن جونسون يحتاج لأن يحقق نصرا واضحا في هذه الأزمة كي يتمكن من إقناع خصومه في حزب المحافظين الحاكم، قبل حزب العمال المعارض، من أنه الزعيم المناسب لمواجهة الأزمات الخطيرة. لكن مثل هذا النجاح يبدو بعيد المنال لأسباب كثيرة، منها نجاح المبادرة الفرنسية.

الرئيس الأميركي، جو بايدن، ورغم مواقفه المتشددة رسميا بخصوص الأزمة الأوكرانية، يأمل أن تُحَل دبلوماسيا، فالمواجهة العسكرية مع روسيا، في ظل توتر العلاقة مع الصين، وانقسام الرأي العام الأميركي انقساما حادا بين اليمين واليسار، والمصاعب السياسية التي يواجهها في تمرير برنامجه الاقتصادي الإصلاحي، تنطوي على مخاطر عديدة، وكل هذه المخاطر ستكون حاضرة عند صياغة أي سياسة تتعلق بأوكرانيا. لكنه قد يستفيد محليا ويكسب المزيد من المؤيدين، على حساب اليمين المتشدد، إن هو أبدى صرامة في التعامل مع روسيا وعزز من قيادة الولايات المتحدة لحلف الناتو.

الرئيس الروسي، فلاديمير بوتن، برهن على أنه سياسي حاذق يجيد اقتناص الفرص، وفي الوقت الذي يخطط فيه بتأمل لسياساته الاستراتيجية، فإنه لا تنقصه الجرأة والاقدام على المغامرة من أجل تحقيق طموحه في جعل روسيا قوة عظمى. لكن العظمة لا تتحقق فقط عبر المغامرات العسكرية لاستعادة النفوذ السابق، وإنما عبر التقدم العلمي والنمو الاقتصادي، وروسيا مازالت متلكئة في هذين المجالين.

الاقتصاد الروسي مازال معتمدا على صادرات الطاقة والموارد الطبيعية بنسبة 65%، وهي نسبة كبيرة بالمقارنة مع الدول الصناعية. كما تعتمد روسيا على التكنولوجيا الأميركية، التي تهدد واشنطن بحظرها، إن أقدمت على مغامرة عسكرية في أوكرانيا. هناك حاجة ماسة لصادرات الطاقة الروسية في أوروبا، لكن روسيا لا تستطيع أن تستخدم سلاح الطاقة في معركتها الحالية، لأنها ستتضرر أكثر من الدول الأوروبية التي تتهيأ للتحول إلى مصادر بديلة. كما أن مثل هذا العمل، وإن نجح مؤقتا، فإن له تأثيراتٍ بعيدةَ الأمد على العلاقات الروسية الأوروبية والأميركية. اختار بوتِن فصل الشتاء لمشروعه التوسعي في أوكرانيا، وهو الفصل الذي تكون فيه أوروبا بأمس الحاجة للطاقة، الأمر الذي يدفعها لأن تتساهل في تعاملها مع روسيا إن هي أقدمت على أي تدخل عسكري في أوكرانيا. لكن هذه المغامرة ستجلب على روسيا مصاعب جمة منها العقوبات الدولية والإدانة العالمية والسعي المؤكد للاستغناء عن الصادرات الروسية.

وفي الوقت الذي لا يمكن فيه التنبؤ بأولويات بوتِن، بين مواصلة النجاح الاقتصادي البعيد الأمد والتقدم العلمي عبر التعاون مع الدول الغربية، وتوسيع النفوذ وتحقيق أحلام روسيا العظمى على حساب إضعافها اقتصاديا وسياسيا في العالم، وزعزعة ثقة الدول الأخرى بها، ما يزيد الأمر تعقيدا بالنسبة لها ويضاعف من حاجتها إلى التسلح في مواجهة أوروبا والولايات المتحدة؟

المتوقع أنه سيختار الحل الدبلوماسي الفرنسي، بضمان خفض تسلح حلف الناتو في أوروبا الشرقية والتعهد بعدم قبول أوكرانيا في حلف الناتو. بهذا الحل، إن قبلت به الولايات المتحدة وبريطانيا وأوكرانيا، سيحرز بوتِن انتصارا للسياسة الروسية، ويحقق عدة أهداف في آن: استمرار التعاون مع أوروبا والولايات المتحدة، الذي يعزز النمو الاقتصادي والعلمي في روسيا، وتقليص التسلح الغربي في أوربا الشرقية الذي يهدد نفوذ روسيا، وتحجيم طموحات أوكرانيا ودفعها مستقبلا لأن تأخذ بنظر الاعتبار مصالح روسيا في قرارتها السيادية، إضافة إلى إيصال رسالة إلى دول أخرى مفادها أن روسيا قوة لا يستهان بها، وهي لن تتردد في الدفاع عن مصالحها وموقعها الريادي في العالم المعاصر، بأي وسيلة بما فيها الوسائل العسكرية.