فلم يكن أهل قريتي الصغيرة يرون في نشر اسم أحد أبناء القرية في صحيفة سوى نذير شؤم، فلم يكن مر وقت طويل على نشر الصحف أسماء المعتقلين في حملة سبتمبر 1981 التي شنها الرئيس المصري الراحل السادات على كل المعارضة.

تطورت الدنيا، وأصبح نشر اسم شخص في الصحف ليس بالضرورة في صفحة الحوادث، بل قد يكون في صفحة المجتمع بأخبار مفرحة أو حتى في صفحات الأخبار العادية كدليل وجاهة ورفعة مقام.

مع ذلك، ظلت هناك معايير صارمة تحكم النشر، خاصة ما يتعلق بأسماء الناس وصورها وتفاصيل حياتها.

صحيح أن هناك قوانينا ضمن النظام القضائي العام في أغلب البلدان تحمي خصوصية البشر وتعاقب على الذم والقذف والتشهير بأي وسية إعلام (أو إعلان كما هو الحال الآن)، لكن الصحافة كانت دوما لها "مدونة سلوك" تحمي أخلاق المهنة.

هذه الأيام للأسف لم يعد هناك سوى عدد قليل من منافذ الإعلام يلتزم بمدونات السلوك تلك، إذ ساهمت في الحفاظ على أخلاق المهنة إلى حد كبير.

كان الحاكم دائما في نشر أي شئ هو مدى أهميته للصالح العام ولم تكن هناك تفسيرات كثيرة متعددة الطبقات لهذا "الصالح العام" كما هو الحال الآن.

فما لم يكن القصد من النشر هو كشف معلومات وبيانات ممحصة باعتبارها حقائق لأغلبية – أغلبية بمعنى الكل تقريبا – الجمهور المتلقي تفيده في المعرفة التي تشكل وعيه وآراؤه ليبني على أساسها قرارته ويحدد خياراته.

ولم يكن الصحفيون يجدون مشقة كبرى في تحديد الفارق بين ما هو للصالح العام وما يقع في خانة التشهير. كما كان الحد الفاصل بين "الإعلام" بغرض التعريف لتشكيل الوعي وبين "الإعلان" بارز الوضوح.

يمكن للمرء ذكر أمثلة لا تعد ولا تحصى على معايير مدونات السلوك وأخلاقيات المهنة، والتي مازال بعضها مطبقا إلى حد كبير في منافذ إعلام رصينة حتى الآن.

ولا أقصد هنا فقط القوانين المعمول بها في البلدان المختلفة، والتي تقوم المؤسسات الصحفية الكبرى بتحديث تأهيل صحفييها سنويا بشأنها لتتفادى أي دعاوى قضائية قد تكلفها الملايين في قضايا النشر التي اتهمت بالتشهير أو السب والقذف.

وإنما أقصد مدونات السلوك التي تضعها المؤسسات لنفسها وللعاملين بها، ليس من قبيل الرقابة الذاتية وإنما بغرض حماية المصداقية لدى الجمهور المتلقي أولا وقبل كل شئ.

تحكم تلك القواعد المهنية كل العملية لصحفية من وضع أجندة التغطيات الإخبارية إلى أسلوب التغطية ومحاولة الحفاظ على التوازن (بالموضوعية وليس الحياد، فلا حياد مطلقا في أي شئ بما في ذلك الصحافة والإعلام).

ومع تطور الإعلام، وطغيان ما هو مرئي انسحب ذلك على اختيار الفيديو والصور وغير ذلك من المساعدات البصرية والسمعية للرسالة الإعلامية.

يبرر البعض الانتهاكات المتكررة لمدونات السلوك الإعلامي وأخلاقيات مهنة الصحافة بالانتشار الواسع لوسائل التواصل عبر الإنترنت.

وتلك حجة مردود عليها بقوة، فما على الإنترنت سوى وسائل "تواصل" – أي قنوات توصيل.

أما إنتاج المحتوى الصحفي فهو مسؤولية الصحفيين. وليس من مبرر لإعادة تدوير الغث والرخيص والمثير على تلك المواقع سوى ضعف المهنية حتى انعدامها وخلو المحتوى الصحفي من أي جهد.

حتى تلك المواقع تعمل شركاتها على وضع معايير تضبط استخدامها من حيث ما ينشر عليها، وتحدث الدول قوانينها بما يجعل معايير البث عليها من قبل الناس العاديين محكوما بقواعد ومعايير يؤدي انتهاكها للمساءلة القانونية.

كيف يمكن لصحفي أن يعيد تدوير ما يبثه شخص على موقع تواصل يستهدف به شخصا آخر، أو حتى فئة من البشر؟ وكيف تلهث منافذ إعلامية – يفترض أنها تمتهن الصحافة – وراء إعادة نشر ما ينشره شخص (مهما كان ممن يطلق عليهم الآن مشاهير أو مؤثرين أو غير ذلك من الصفات التجارية والإعلانية) على حسابه في موقع تواصل يسعى من ورائه للفت انتباه متابعيه؟ وهل أصبحت مهمة الصحافة والإعلام هي تمييع كل القواعد والقيم والقوانين بمنافسة الجماهير في نشر كل شئ وأي شئ؟

هناك بالطبع من يرى أن وسائل التواصل وفرت حرية للناس العادية بما ينال من أهمية ودور الصحافة والإعلام، وليس هنا مجال مناقشة ذلك الآن.

إنما المشكلة أد ذلك دفع الصحافة والإعلام نحو الاهتراء باللهاث وراء تلك الوسائل.

والنتيجة هي التشويه والتعريض بخصوصيات الناس و"توصيل" ما لا يهمهم ولا يفيدهم لمجرد أنه مثير ويجذب رواد مواقع التواصل.

وهكذا تخسر الصحافة ولا تكسب مواقع التواصل وتنهار قيمة المحتوى بشكل عام ويتواصل انتهاك أخلاق المهنة.