لم يكُنِ الأفراد صنّاعَ هذا الانتقال وأبطالَه، وإنّما عادت رعايةُ ذلك والسّهرُ عليه إلى التّيارات اللّيبراليّة العاملة في السّلطة وفي المجتمع. وهي أحرزت في مشروعها الفردانيّ هذا نجاحاتٍ ملحوظةً ومتعاقبةً؛ منذ نهايات أربعينيّات القرن الماضي إلى أنِ استتبّ الأمرُ لمشروعها في حقبة العولمة الجارية. ولقد أتت فكرةُ حقوق الإنسان تُقدِّم مدخلاً مناسباً إلى مسرح الدّفاع عن الفرد من قِبل هذه التّيارات: أقلاماً وأحزاباً وأنظمةً سياسيّة.

على نحو ما أفضت نهايةُ الحرب العالميّة الثانيّة، ومعها نهاية نظام النّازيّة في أوروبا وألمانيا، إلى قيام نظام الأمم المتّحدة نظاماً دوليّاً لحِفظ الأمن والاستقرار في العالم، وفرض مرجعيّة القانون الدّوليّ في العلاقات الدّوليّة، قضت بإعادة تفعيل منظومة قوانين حقوق الإنسان وتكريسها منظومةً دوليّة تحميها الأمم المتّحدة. وكان واضحاً، تماماً، ذلك الارتباط المكين بين حقوق الإنسان، في وثائق الأمم المتّحدة وعملها، وما وَقَع في العهد النّازيّ من عدوانٍ صارخ على تلك الحقوق في ألمانيا ومجمل أوروبا. لكنّ انتهاكاتها في البلدان المسمّاة اشتراكيّة وفي بلدان العالم الثّالث كانت شديدة الصّلة بتدويل قضيّة حقوق الإنسان.

وبمعزل عن عمليات الاستغلال الإيديولوجيّ- السّياسيّ لقضيّة حقوق الإنسان - وقد بدأت مع إعلان «مبادئ ويلسون» قبل أن «تَكُرّ سبحتُها» في حقبة الحرب الباردة - فإنّ للفكرة أصولاً في فلسفة السّياسة، كما أنّها دخلت في جملة مقوّمات الهندسة السّياسيّة للدّولة الحديثة، منذ «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الذي أصدرته الثّورة الفرنسيّة (الجمعيّة التّأسيسيّة الوطنيّة تحديداً) في صيف العام 1789. ولقد كان بيِّناً، إلى حدٍّ بعيد، ذلك التّماهي في المعنى بين مفهوم الإنسان ومفهوم المواطن في الاستخدامات الفلسفيّة والسّياسيّة الأولى له - على نحو ما يبيّنه الاقترانُ بين المفهومين في الإعلان الفرنسيّ - ولم يكن وارداً، حينها، أن يُنْظَر إلى مفهوم الإنسان بما هو كائنٌ أعلى من المواطن على صعيد منظومة الحقوق التي يتمتّع بها، لسببٍ معلوم هو أنّ الدّولة الوطنيّة هي الإطار المرجعيّ لحقوقه بما هو إنسان/مواطن خاضع لقوانينها.

 الفردُ في عُرف الدّولة الوطنيّة وقوانينها هو المواطن؛ أي الفرد الذي تربطه بها رابطةُ ولاء: يخضع لقوانينها، ويؤدّي واجباته ويتمتّع، في المقابل، بحقوقه المدنيّة والسّياسيّة داخلها. الدّولة مَن يحمي المواطن بتشريعاتها في الدّاخل ويضمنها، وهي مَن يدافع عن حقوقه خارج بلده بحسبانه واحداً من رعاياها. إنّها مرجعُه لأنّها مرجع المواطَنة ومنظومةِ قوانينها. لا مجال، إذن، للحديث عن مواطن إلاّ داخل إطاره المرجعيّ الذي يصنع له مواطَنَتَه: الدّولة الوطنيّة. هذا، على الأقلّ، ما قامت عليه الهندسة النّظريّة الفلسفيّة لهذه الدّولة، والهندسة السّياسيّة التّطبيقيّة التي تجسّدت فيها. غير أنّ تغيّراتٍ كبيرةً ستطرأ على هذا النّموذج المرجعيّ للمواطن/ الفرد في العقود السّبعة الأخيرة، لتبدأ علاقات أخرى في التّشكّل ستكون على حساب المواطن، وعلى حساب وَلاية الدّولة الوطنيّة على مواطنيها وسلطان قوانينها السّياديّ داخل اجتماعها الوطنيّ.

مع صدور «الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان» عن الأمم المتّحدة، في العام 1948، وَلَجَ العالم حقبةً جديدة عنوانُها تدويل حقوق الإنسان؛ أي إخضاعُها لأحكام دوليّة تُزاحم الأحكام القانونيّة الوطنيّة و، بالتّالي، تعدِّل من المعنى المتعارَف عليه للمواطن والفرد. يمكننا التّمييز بين طوريْن من السّياسة الدّوليّة، في هذا المجال، لا يجوز الخلط بينهما لاختلاف الدّوافع والأهداف:

عاد إلى هذا الإعلان، وإلى العهود التي أُبرِمت في نطاق أحكامه، دورٌ رئيسٌ وعظيم في حَمْل القسم الأعظم من دول العالم على تحسين أوضاع حقوق الإنسان فيها، وإصدار تشريعات تحيطها بالحماية والضّمانات، وتجرّم الانتهاكات. كان ذلك في طورٍ أوّل امتدّ، عمليّاً إلى نهاية سنوات الثّمانينيّات، وكانت ثمرتُه جيّدة على صعيد إشعار البشريّة جمعاء بأنّ حقوقَها قيْد الاهتمام الدّوليّ، كما على صعيد كفّ تجاوزات النّظم التّسلطيّة ومعاقبتها على انتهاكاتها بالتّشهير بها في التّقارير الدّوليّة الخاصّة، بل ومعاقبتها بحجب القروض والدّعم الماليّ عنها وتعليق الإفراج عنه بتحسين أوضاع حقوق الإنسان فيها وتطبيق مبادئ المواطَنة الكاملة.

يسعنا أن ننعت هذا الطّور الأوّل بأنّه الطّور الإنسانيّ في السّياسة الدّوليّة المتعلّقة بالحقوق، في مقابل طورٍ ثان يَقْبَل تسميته بالطّور الإيديولوجيّ. وهو كذلك لأنّ حقوق الإنسان تحوّلت فيه إلى أداةٍ للتّسخير الإيديولوجيّ- السّياسيّ المصروف لأهداف سيّاسيّة لا علاقة لحقوق الإنسان بها: للضّغط والابتزاز وصولاً إلى التّدخّل باسم «حقّ التّدخّل الإنسانيّ»! لم يَعُد الفرد، في هذه المقاربة الجديدة، مواطناً ينتمي إلى دولة، ويتمتّع بحقوقه فيها، بل صار فرداً «كونيّاً» عابراً للأوطان. أمّا مرجع حقوقه فلم يعد منظومة التّشريع الوطنيّة، بل بات منظومة القوانين الدّوليّة التي تفرض حاكميّتها على الجميع، وتَجُبَ القوانين الوطنيّة والسّيادات الوطنيّة. إنّه التّحوّل الذي آذن بالانتقال من زمن الدّولة الوطنيّة إلى زمن العولمة.