يكفي أن نتأمّل المنطق السائد الذي يستهجن العفوية ويعمل على تسويقها كشهادة على سذاجة، كي نعلم كم نحن أسرى قانون جائر، مسبق، غير معني بالحقيقة، يحرّضنا على تزييف الواقع. أي الظهور بمظهر آخر، الحقيقة فيه غير ذات أهمّية، مادام العرف العام هو سيّد الموقف في واقع يهيمن عليه طاغوت العلاقة.

ليس العفوية وحدها ستكون، في واقع كهذا، ضحيةً، ولكن البراءة نفسها سوف تلفظ فيه أنفاس النزع الأخير مراعاةً لبدعة اخترعت لها اسماً مهيباً، ما لبث أن صار في واقعنا سلطة، هي: الرأي العام.

هذا الرأي العام الذي يحثّنا على عبادة الأوثان التي نصّبناها في حياتنا معبوداً، فلا نكتفي بتلاوة صلواتنا في أرضها، ولكننا نأبى إلّا أن نتغنّى بها لنفرضها على كل من يجرؤ على العبث بمفاهيمها، ونستنزل في حقّهم حكم التجديف. فكل ما هو طبيعي يجب أن يتنكّر لهويّته الفطريّة، ويعتنق دين الكلّ مادام دين الأغلبيّة، ومادمنا لا ننوي أن نشقّ عصا الطاعة ونخلع البيعة في حقّ دين هذه الأغلبية.

وكي نميت في وجودنا منطق أمّنا الطبيعة، علينا أن نعترف بالأقنعة هويّةً. يحدث هذا لا على مستوى قناعاتنا اليومية، ولكن على مستوى سجيّتنا أيضاً. فاتّخاذ الأقنعة هو الاعتراف بالزور دليلاً. وهو منكر ينال منطق كل مجال، بما في ذلك منطق المنطق نفسه، أي اللغة.

فاللغة في عالم العلاقة لا تعود ترجماناً لنوايانا، ولكنها تتحوّل وسيلة للتغطية على نوايانا. وسيلة لإخفاء أفكارنا. أي أن اللغة تستعير قناعاً، لتغدو احتيالاً في مسيرة قدسية كطلب الحقيقة، بدل أن تلعب دورها الرسالي كأنشودة في مديح الكينونة، واستجلاء ما غاب عنّا من كنوزها الدّفينة، التي تسكننا كما نسكنها.

فوجودنا في حضرة العلاقة كلّه ترويض على استخدام الأقنعة. والملحمة لا تنتهي عند هذا الحدّ، ولكنها تتواصل إلى أن تبلغ الذروة باختراع القناع الذي نُحكم سلطانه لا في سمائنا وحدها، ولكن في أعماقنا أيضاً، كي نقنع به أنفسنا، لنغرّب بذلك أنفسنا عن أنفسنا، لأنه القناع الذي نعتصم به كي ننكر الإنسان الخفيّ، الحقيقي، الذي يسكننا، لنحوّله ضحيّةً بهيمنة هذا القناع في وجودنا.

إنه القناع الذي نتقن تقنياته، لأنه ملاذنا في تغريب إنسان الأعماق فينا، ولم نستضفه من عالم يقع خارجنا، مفروض علينا بحكم العلاقة، ولهذا السبب نتشبّث بتلابيبه، ونسوّقه لأنفسنا بفنون التزويق، ونبيح له بأن يتلبّسنا، كي يصير هويّتنا، ناسين أنه خطيئتنا، التي نستبسل في إخفائها عن أنفسنا.

ولكن قناع مريد السلطة يبقى القناع الأكثر إثارةً للفضول. لماذا؟ بسبب طبيعة السلطة كعَصَب للمغامرة الوجودية برمّتها، وإلّا ما هي ظاهرة الكاريزما، القرينة للسلطة، إن لم تكن تسويقاً صريحاً لجناب القناع؟

من حقّنا أن نتساءل هنا: ما هو نصيب الخصال الفطرية، كالدهاء أو الشجاعة أو الوقاحة أو الموهبة الطبيعية، في تشكيل هوية الكاريزما، بالمقارنة مع دور القناع في تلفيق كيان هذه الشخصية؟

أعتقد أن نسبة هذه الخصال، في الصفقة، لن تتجاوز العشرين في المائة، في حين يستولي القناع على الثمانين في المائة الباقية. فكلّما أفلح مريد السلطة في تغييب شخصيته الحقيقية، المجبولة بمواهب الطبيعة، وتغليب شخصيته المكتسبة، بفضل القناع، كلّما قطع شوطاً أبعد في رحلة تشكيل هذه الكاريزما، التي نتوهّم أنها نتاج هبة غيبيّة، معطاة بتزكية الربّ.

وهو ما يعني أن ما نحسبه أعجوبة، ما هو في الحقيقة سوى تدبير من صنع القناع. تدبير؟ الواقع أنه تدبيرٌ لئيم. الواقع أنه كيدٌ مبيّت، مبرمج بحرف القناع. قناع يستعير سيماء التفوّق، بقدر نجاحه في إماتة سلطة الضمير، أي بقدر قدرته على إنكار السجيّة، واستبدالها بأخرى مفتعلة، ولكنّها متقنة، إلى الحدّ الذي لا يعود فيه اغتراب السيماء هو القياس، كما في رواية "الورم"، حيث تتماهى خلعة السلطة بالجسد لتسري سرطاناً في الدمّ، ولكن اللعبة تجتاز هذه العتبة، لتعلن عن نفسها في مرتبة الإطاحة بعرش الروح، كي يكتمل صنم ما نسمّيه كاريزما.

في هذه المنزلة يغدو كل شيء مباحاً، بما في ذلك احتراف الجريمة، لأن اغتراب الروح هنا، ما هو إلّا الترجمة الحرفية  لغياب الرب.

ففي السلطة لا وجود لروح، لا وجود لربّ، لا وجود لوجود، لأن السلطة كلّها قناع! ولكنه القناع المسخّر لامتلاك الوجود، وليس قناع استحضار الوجود.

فإذا شئنا أن نكون شهوداً على الزلزال الذي يحدثه قناع السلطة في كينونة مريدها، فليس لنا إلّا أن نتأمّل سيماء بطل المهزلة قبل ارتداء القناع، ومقارنته بالسيماء بعد اعتناق دين القناع!