وهذا الموعد لن يحسم الجدل ولن ينهي الأزمة، فهو مجرد موعد مفروض دستوريا، يجتمع فيه البرلمان الجديد لأول مرة، ويُفترض أن ينتخب رئيسا له ونائبين للرئيس، ولكن حتى هذا الإجراء ليس مضمونا، رغم أن الدستور في المادة 55 ينص على انتخاب رئيس البرلمان ونائبيه في الجلسة الأولى. لكن فطاحل القانون ابتكروا طريقة للالتفاف على هذا النص الدستوري عبر "إبقاء الجلسة الأولى مفتوحة" حتى يجري انتخاب رئيس البرلمان ونائبيه، حتى وإن تطلب الأمر إبقاءها مفتوحة لعدة أيام أو أسابيع أو أشهر!

ولكن، نظريا على الأقل، يمكن أن تُختصَر المدة الدستورية لاختيار الرئاسات الثلاث من شهر إلى يوم، إذ يمكن أن ينتخِب البرلمان رئيسا له، ورئيسا للدولة، يقوم بتكليف مرشح الكتلة الكبرى بتشكيل الحكومة، في الجلسة الأولى، التي يجب أن تعلِن فيها الكتلة الكبرى عن نفسها.

وبعيدا عن المواعيد الدستورية التي وُضعت لتُخرق، لأنها صارمة وغير عملية في ظل الوضع العراقي المعقد، وفي ظل طبقة سياسية متناحرة ولا توجد بينها مشتركات يمكن الاتفاق عليها، فإن قواعد اللعبة في العراق قد تغيرت عما كانت عليه خلال 17 عاما، والسبب هو انتفاضة الشعب العراقي في (أكتوبر) تشرين الأول عام 2019، على الفساد والتبعية والدجل والخداع الذي مارسته الجماعات السياسية، التي تمددت وازدهرت على حساب الناس ومصالحهم وحرياتهم وكرامتهم.

هذه الجماعات لم يعرفها العراقيون سابقا، ولم يطلعوا على أفكارها وخططها وبرامجها، ولم يتعاملوا معها، لأن معظمها كان يعمل سرا في الخارج، لكنها فجأة أطلت عليهم بعد إسقاط النظام السابق، متشدقةً بالدين والمظلومية الطائفية، فخدعت الناس وأوهمتهم بأن مستقبل العراق سيكون زاهرا في ظل سلطتها، وأن الدولة ستكون أقوى وأغنى وأجمل وأكثر استقرارا عندما تضطلع هي في إدارتها، وأن الثروة سوف توزع على الجميع بعدالة، وأن كل الحقوق التي ضاعت في ظل الأنظمة السابقة سوف تعود إلى أصحابها!

وخلال سبعة عشر عاما لم تخدم هذه الجماعات سوى قادتها وأعضائها، ومخططات دولة أخرى كانت ترعاها وتدعمها، وكل ذلك على حساب العراق وأمنه واستقراره ورخائه وحرية شعبه. وفي كل انتخابات تتغير أسماء هذه الجماعات، التي بدأت طائفية، ثم أصبحت طائفية بصبغة وطنية، ثم لبرالية بصبغة طائفية، لكن الأشخاص المحركين لها بقوا ثابتين ولم يتغيروا، فإن مات أحدهم أو عجز، حل ابنه أو صهره أو ابنته محله، بينما تضاعفت الوعود وتشعبت: سوف نبني ونعمر ونوظف ونخدم ونقدم، لكن المحصلة كانت مزيدا من التدهور والنكوص.

وأخيرا عندما تحرر الناس من الأوهام، بدأوا يسألون القادة: لكنكم لم تقدموا خدمة سوى لأنفسكم وأقاربكم والدولة الأخرى التي ترعاكم؟ فلم يحصلوا على أجوبة مقنعة، وكل الذي يسمعونه منهم هو حديث عن الزهد والتقوى والورع والجنة والنار، وسرد للأحداث التأريخية التي انتصر فيها الدم على السيف! بعبارة أخرى، هو خداع باسم الدين والمظلومية المزعومة، حتى جعلوا الناس ينفرون من الدين ولا يصدقون بأي ادعاء ديني حتى يروا له مصداقا على أرض الواقع، ولم يروا شيئا.

أما وقد تغيرت قواعد اللعبة الآن، بفضل وعي الشباب وتضحياتهم في انتفاضة تشرين، فإن الحكومة التي تنتجها المعادلة الجديدة يجب أن تكون مختلفة عما اعتاده الناس سابقا، فإعادة تدوير المسؤولين السابقين لم يعد مقبولا، بل سيثير غضب الناس ويدفعهم إلى اليأس من جديد، فهؤلاء فاشلون، ومعظمهم فاسدون أو متواطئون مع الفساد أو ساكتون عنه أو مخادعون يبحثون عن وظائف دون أن يقدموا أي إنجاز. كثيرون منهم يأملون بالعودة، بل أخذوا يبرئون أنفسهم من الفشل والفساد والجرائم، ويلقون باللائمة على عناصر فضائية قامت بتخريب البلاد وقتل العباد ونشر الفساد.

فمن قتل الشبان المتظاهرين هو السفارات الأجنبية! ومن زعزع الأمن والاستقرار هو الجماعات الإرهابية! التي صنعتها أمريكا وإسرائيل! ومن عطَّل الخدمات وأفشلها هم أعداء الدين الذين استهدفوهم لأنهم (من أتباع الحسين)! وقد بلغت الوقاحة بأحد المتشدقين بالدين أن يزعم بأن سبب تدني الكهرباء في العراق هو الولايات المتحدة التي تدير وزارة الكهرباء حسب قوله! بينما ادعى متشدق آخر بأن إسرائيل تقف وراء تدهور الخدمات في المدن العراقية الفقيرة!

هذه النماذج البشرية النادرة لم تترك لأحد مجالا أن يحترم النظام السياسي الذي أوصلها إلى الحكم، أو يصدق بالوعود التي تطلقها، أو يحترم من دعا للتصويت لها، ولا تستحق حتى جهد الذهاب إلى صناديق الاقتراع والتصويت لأي منها، فالتبريرات التي تقدمها للمجتمع تتميز بصفاقة نادرة لا يجترحها إلا الذين تربوا على الكذب والدجل والخداع، ولم يختلطوا سوى بالسذج المستعدين لتصديق أي شيء.

لهذه الأسباب بدأ الناخبون العراقيون يعزفون عن التصويت، فبعدما كانت نسبة المشاركة في الانتخابات 79%، تدنت إلى حوالي 30% في الدورتين السابقتين. لقد أدرك الناس بأن الانتخابات لن تغير شيئا، فكلما صوتوا ضد هذه الجماعات، عادت إلى السلطة عبر التزوير والتلاعب بصناديق الاقتراع أو حرقها، وشراء الأصوات وتغييب المنافسين وتسقيطهم واتهامهم بشتى التهم كي يحرموهم من الترشح، أو يهددونهم ليهربوا إلى الخارج.

لقد استنتج عراقيون كثر بأن لا حل للأزمة العراقية إلا باقتلاع هذه الجماعات من الجذور عبر المواجهة المباشرة معها، وعدم التصويت لها، والاحتجاج سلميا على أفعالها. لكن الاحتجاجات كانت سلمية من طرف واحد فقط، وهو طرف الشعب، إذ لجأت الجماعات المسلحة إلى توظيف القناصين والقتلة المتمرسين لقتل الشبان وخطف النساء والناشطين في وضح النهار، دون خوف من خالق أو مخلوق.

ومن أجل أن يحترم الناس النظام السياسي ويتفاعلوا معه ويسندوه عند الشدائد، فإنه يجب أن ينصفهم ويحترمهم، ويلبي مطالبهم بتشكيل حكومة من الخبراء المخلصين كي يبدأوا بإصلاح الخلل والنهوض بالبلد، ويعيدوا الثقة للشعب بالدولة ويبعثوا الأمل بإمكانية تحقيق مستقبل أفضل، إن لم يكن للجيل الحالي، فللأجيال المقبلة.

حذارِ أيها القوى الفائزة من تكرار الأخطاء السابقة، التي قادت إلى الخراب الحالي. حذارِ من الإتيان بمن ساهم في الخراب أو ارتضاه، ومن ارتكب الجرائم أو تستر عليها. يجب ألا يُعطى المشاركون في الحكومات السابقة فرصة أخرى، لأنهم سيواصلون الفشل الذي اعتادوه.

هناك كفاءات عراقية كثيرة متحمسة للخدمة، وهناك قادة يتمتعون بقدرات خلاقة من الجيل الجديد، وهؤلاء يجب أن يُمنحوا الفرصة لخدمة بلدهم والنهوض به. ليس صحيحا أن يؤتى بمن أفقر العراقيين وتقاعس عن ملاحقة المجرمين والفاسدين وأذعن صاغرا للمسلحين، مضحيا بالمصلحة العامة، ومستهترا بالقوانين، ومستمتعا بانتهاك سيادة البلد، وكل همِّه أن يبقى في منصبه الهزيل مهما كلف ذلك البلد من ثمن.

هناك من يروج لأسماء هزيلة عديمة الخبرة والثقافة والجرأة كي (يقودوا) البلد مرة أخرى، وهؤلاء برهنوا على أنهم غير مؤهلين، فقد فشلوا في المهام التي أنيطت بهم سابقا، وليس صحيحا أن يُعطَوا فرصة أخرى. الكتلة الصدرية لديها فرصة تأريخية في أن تشكل حكومة من الخبراء النزهاء وتدعمهم سياسيا كي ينهضوا بالأعباء الثقيلة التي تنتظرهم وبذلك يمكنها أن تُحدِث تغييرا حقيقيا. أنصاف الحلول لم تعد مجدية، والفاشلون والضعفاء غير قادرين على تغيير نهجهم ولا يمكنهم أن يتحولوا بين ليلة وضحاها إلى بناة دولة، والعراق لا يتحمل المزيد من العبث والتجريب.

الحكومة المقبلة يجب أن تسلك نهجا جديدا في التعامل مع المشاكل، يتلخص بالصرامة في تطبيق القانون، والسرعة والكفاءة في تنفيذ المشاريع الحيوية، ومعالجة التشوهات الاقتصادية وتوطيد علاقات العراق مع الدول المهمة. وباختصار شديد، يجب أن تكون بحجم العراق. فمن المعيب والمحزن أن نقدم للشعب العراقي والعالم قادة ضعفاء، ونحن لدينا آلاف القادة والخبراء المتمرسين الذين عمّروا دولا أخرى بسبب زهدنا بهم.

الاقتصاد العراقي يعتمد حاليا على النفط بنسبة 90 بالمئة، وهذا الوضع غير قابل للاستمرار، خصوصا مع توقع انخفاض الأسعار ولجوء الدول الصناعية إلى مصادر بديلة للطاقة. لقد أصبح لزاما على الحكومة المقبلة أن تتخذ إجراءات حازمة لتغيير هيكلية الاقتصاد كي يبقى العراق متماسكا كدولة ذات سيادة، دون الاعتماد على النفط. لذلك، يجب اختيار مسؤولين يتمتعون بفهم عميق للاقتصاد وخبرة في الإدارة، ورؤية عصرية لبناء الدولة، ويمتلكون القدرة على الإقناع وكسب ثقة الشعب العراقي والمجتمع الدولي.

العراق بحاجة إلى استثمارات كبيرة، والمستثمرون لن يأتوا إن لم يجدوا من يقنعهم بأن هناك تغييرا حقيقيا في البلد. والإقناع لا يتحقق عبر الكلام فقط، بل عبر السياسات المدروسة والقدرة على تنفيذها والالتزام بها. إنها مسؤولية كبرى، تتعلق بمصير بلد ومستقبل شعب، وليس صحيحا أو معقولا أن تخضع للمجاملات والتوازنات الطائفية والقومية والمناطقية.