واقعنا الحداثي يجيب بـ لا. والدليل؟ الدليل نجده في حرف موقفنا من الجمال. فنشاط إنسان زماننا لم يتردّد في أن يستصدر حكماً حاسماً، يحظر على الجيل التغنّي بجمال الانسانة التي كانت منذ الأزل عنوان الجمال، كما الحال مع المرأة. والحجّة؟ الحجّة هي الحرص على كرامة المرأة، وحظر كلّ ما من شأنه أن يدنّس حرمة هويّتها كامرأة، وتحريم كل ما يمكن أن يذكّرها بأنوثتها، كالأطراء مثلاً، لأن ذلك تجديف في حقّ المساواة أوّلاً، وعدوان سافر في حقّ استقلاليّة شخصيّتها ثانياً!

فكلّ ما يمكن أن يقوله الرجل، أو يفعله، إكباراً لشخصها، يمكن أن يوحي باستحسانٍ لمحاسنها، أو مديحٍ لجمالها، هو، في العُرف الجديد، بمثابة شروع في الإعتداء على عفّتها، وجرم يرتقي إلى مستوى النيّة في افتضاض بكارتها، أو تدبير مكيدة لاغتصابها!

ولمّا اعتادت نزعة العولمة أن تعتنق دين التقليعة في تسويق قناعاتها «التنويرية»، فلا تلبث التقاليع أن تنقلب في الواقع صَرعات جنونية، لها سلطة في إقناع ملّة النساء على قبول دور الضحيّة في تلك المسرحية التي كانت إلى وقت قريب هزليّة، لتستعير الآن خصالاً عدميّة.

فالجمال رأسمال الانسان، فكيف إذا تعلّق الأمر بالشطر الذي لم يخلق إلّا ليجسّد هذا المثال؟ فكم كان وجود آدم موحشاً، بغياب المرأة، فلم تبدّد في حضوره هذه الوحشة كلّ آيات الحُسن التي جادت بها عليه العناية الألوهيّة، لتكون له في عزلة الفردوس شفيعاً؟ كيف نفلح في أن نحيا دنيانا بروح الشعر، كما يحرّض الشاعر، إذا لم يكن الجمال لروح الشعر، في سفر الوجود، دليلاً؟ كيف لا يبطل مفعول الحبّ نفسه، في حال اغترب في حرمه الجمال؟ ألم يكن الجمال هو الحقل الخصب الذي آلى على نفسه أن يحتضن الحبّ، كي يثمر الهبة التي تضمن لملّة الظلّ الفاني بذاراً، تجيره قدر فناءٍ، وتكون لها في الباطل حُجّة خلود، قبل أن يأتي مَنْ انتوى أن يشكّكنا في حقيقة هذا العزاء، ليحرّضنا على البخل في حقّ هذا المثال، لنحرمه آي إكبارنا، أو وسام ثنائنا، أو أنشودة امتناننا، ليسوّق هذا الدَّيْن كبرهان للنيْل من حرمة هذا الحَرم الإلهيّ، بترجمة الثناء كجنس شهوةٍ، من شأنها أن تدنّس ما كان في حياتنا، منذ الأزل، قدس أقداس، اختزل تلك القيم، التي تغنّت بها الحقيقة، لتعتمدها في اغترابها ملاذاً؟

سَدَنة واقعنا الحداثي لا يدرون كم يجرمون في حقّ المرأة عندما يحرمونها تلقّي فروضاً، هي في الواقع، بمثابة قرابين مستحقّة،  ظلّت وستبقى لغزاً، بسبب الطبيعة الغيبيّة للجمال، وما الآيات التي يبخلون بها عليها سوى حزمة حقوق، تترجم اعترافنا بسلطان هذه السلطة الغيبيّة، التي ندري كم سنكون أشقياء، فيما لو غابت من واقعنا الفاني.

والواقع أننا لن نكون وحدنا الأشقياء في هذه الحال، ولكن الإنسانة التي توّجتها الطبيعة بالجمال ستكون شريكنا أيضاً في هذا الشقاء، لأن البخل عليها بالإعتراف بسلطان الجمال، هو نيلٌ صريح من مؤهّلها، وإنكار غبيّ لرسالتها. أي أنه تجريد حرفيّ لصلاحيّاتها، وعدوان، بالتالي، على ماهيّتها.

وعلّ الأسوأ من كل شيء هو أن وجودها برمّته سيفقد المعنى. لأن السؤال هو: ما جدوى وجودنا في واقع ينكر علينا موهبتنا، التي لم نحلّ أضيافاً على هذه الدنيا إلّا لنبشّر بها، ونصمّ آذان العالمين ونحن نتغنّى بها؟

فالنزعة التي تقمع فينا الإحساس بالجمال بدعوى إخفاء نوايا لا أخلاقيّة خلف امتناننا البريء نحو الإنسانة التي أهدتنا، بحضورها في واقعنا القاحل، نفحة حرية، لا وجود لها خارج الجمال، إنّما تتعمّد أن تسيء بنا الظنون مسبقاً، متجاهلةً أن موقفنا من المرأة، كنموذج يختزل هذه الذخيرة، لا يجب أن يختلف عن موقفنا من الوردة في مملكة الطبيعة، التي من حقّنا أن نسبّح، في حضرتها، بحمد المبدع الجميل، المجبول بالجمال، الذي اصطفاها لتكون في وجودنا فردوساً ننعم فيه بالفرح، ونقول في حقّه الأشعار لنعبّر عن سعادتنا، دون أن يكون من حقّنا أن ننساق وراء أهوائنا، فنقترف خطيئة: قطف الوردة؛ لأننا حينها نكفّ عن الإستمتاع  بالجمال، ونرتكب جريمة قتل في حقّ الجمال!

في واقع الطبيعة الإنسانيّة أيضاً يغترب الجمال حال إنتوينا الإستيلاء على الجمال. يغترب الجمال حال انتوينا امتلاك الجمال.

وهو إثمٌ رهين استيقاظ الشهوة فينا. فالشهوة شروع للتحرر من الناموس الذي يحكم العلاقة بطيف هشّ، بقدر ما هو فذّ، لا وجود في عرفه للحسّ، كالجمال، الذي لا يعترف بغير ملكوت الروح ديناً.

فالطبيعة لا تستعرض مفاتنها، عندما تستحضر لنا الوردة، ولا تتدلّل في حضورنا، كي تستدرجنا بأقوى الفنون التي تتقنها: الاغواء! ولكنها تسوّق لنا بشارة، تطرح في وجوهنا نبوءة، ترمينا بالفتنة الأقوى مفعولاً من كل إغوء، لأنها تترجم لنا في هذه اللفافة الهشّة، المسكونة بحميميّة عشق لا أرضيّ، البسمة الأكثر غموضاً، المفتوحة على السماء العصيّة، المتناهية بحيادها، المتحدّية في لا مبالاتها، لأن اللفافة هنا هي كلمة الإمتنان على هبة الغيث، التي تلقّتها الأسافل يوماً، لتكتل من بتلاتها الشفيفة، هذه المعجزة، التي تسري حُسْناً ثريّاً، في كيان ما اعتدنا أن نسمّيه وردة!

في عالم طبيعتنا البشرية أيضاً نحن شهود حدث مماثل. فالأنشودة الشعرية، أو اللحون الشجنيّة، التي نتغنّى بها احتفاء بالجمال، إنّما هي سورة إمتنان، من واجبنا أن نطرحها قرباناً في حرم الهبة اللا أرضيّة، التي نلناها بالمجّان، لتسطع فيها شمس الحقيقة، التي لا تجد ما تخاطبنا به، من وراء ستورها المنيعة، سوى هذا الخطاب الذي يفتننا، وياسرنا، ويسلبنا هويّتنا السفليّة، لأننا نستطيع أن نحدسه، ولكن هيهات أن نعبّره!