وحتى مسألة الصواب والخطأ فيها قدر كبير من النسبية، على حسب زاوية نظرك للأمر. بالطبع، إذا لم يكن له علاقة بالأصول والبادئ الانسانية الأساسية. المهم هو أن نتعلم من أخطائنا، ولا نكابر بصلف وعنجهية فنضاعف التبعات السلبية. ما ينطبق على الأفراد ينطبق على الجماعات والدول. فالخيارات الخاطئة واردة دائما، في السياسة والاقتصاد وغيرها.

أما المجتمع الرشيد والدولة القوية فتتعلم من تلك الأخطاء، ليس فقط لتفادي تكرارها في المستقبل بل وللاستفادة من دروسها لتجاوز النتائج السلبية وتحقيق ما هو أفضل. أما من "تأخذه العزة بالإثم" ويبرر الخيارات الخاطئة على أنها ابداع غير مسبوق مستخدما "الحقيقة البديلة" أو بمجرد الغطرسة والعجرفة فغالبا ما يكون قد بدأ يخط بداية تراجعه. وتاريخ البشرية ملئ بنماذج الخيارات الخاطئة، تلك التي كان بعضها دروسا لجماعات وأمم تعلمت واستفادت منها وتجاوزتها إلى ما هو أفضل محققة تقدما وتطورا وبعضها الآخر بداية تدهور وتراجع لمن تمادى في عنجهيته معتبرا أنها أفضل الخيارات رغم الأدلة على أنها خاطئة. ومع أن التاريخ يمدنا بالعبر ويسند قدرتنا على التعامل مع تحديات عصرنا وطموحات مستقبلنا، إلا أن البعض في غمرة زهوه وغروره – أو غفلته وإهماله - لا يلتفت لدروس التاريخ.

قبل 5 سنوات صوتت غالبية بسيطة من البريطانيين في استفتاء عام لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي (بريكست). وبغض النظر عن الدعاية الملفقة التي جعلتهم يصوتون هكذا، ففي النهاية حسمت النتيجة مسار بريطانيا خارج أوروبا رغم أنها كانت من الدول المؤسسة لذلك الاتحاد قبل أكثر من نصف قرن. وصادف أن جاء العام الأول لبريطانيا رسميا خارج الاتحاد الأوروبي متزامنا مع أزمة وباء كورونا، ليتضافر العاملان في زيادة حدة مشكلات بريطانية داخلية تراكمت عبر السنين.

كان الشعار الرئيسي لمتزعمي حملة البريكست أن بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي ستملك زمام أمورها وتتخلص من بيروقراطية الاتحاد في توسيع مصالحها الاقتصادية والتجارية مع الشركاء حول العالم بما يجعلها تنطلق اقتصاديا نحو نمو غير مسبوق. أما ما أثار مشاعر الجماهير، في ظل صعود التوجهات اليمنية والمغالاة في القومية، فهو موضوع المهاجرين. وصوت كثيرون في استفتاء 2016 لصالح بريكست على أساس أن وجود بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي يغرق بلادهم بالمهاجرين الذين يأخذون وظائف البريطانيين.

في تحليل أعد لصحيفة الإندبندنت البريطانية من قبل كبار الأكاديميين في مرصد السياسات التجارية البريطانية بجامعة ساسكس، خلص الباحثون إلى أن كل اتفاقيات التجارة الحرة التي أبرمتها بريطانيا بعد بريكست لا تعادل أكثر مما بين 0.01 و0.02 بالمئة من النتاج المحلي الاجمالي البريطاني على مدى 15 عاما القادمة. بينما قدرت الحكومة البريطانية نفسها الخسائر نتيجة بريكست بنسبة 4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة نفسها. وبالتالي تكون خسائر بريطانيا من بريكست أكبر 187 مرة من مكاسبها من اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية التي أبرمتها وهي خارج الاتحاد الأوروبي. ويشير التحليل الخاص بالإندبندنت إلى أن أغلب تلك الاتفاقيات البريطانية مع الشركاء التجاريين ليست سوى شروط وبنود مماثلة لما كانت تتمتع به بريطانيا وهي ضمن أوروبا.  

أما موضوع الهجرة وتسبب العاملين من خارج بريطانيا في عدم توفر وظائف لأهل البلد، فقد ظهرت نتائجه بسرعة في أزمة محطات البنزين حين اكتشفت بريطانيا أن لديها نقصا في عدد سائقي الشاحنات يصل إلى 100 ألف سائق. وحين حاولت استقدام سائقين من دول أوروبا، بعدما غادر أكثر من عشرين ألفا منهم نتيجة بريكست، لم يأت سوى بضع عشرات. تكرر ذلك في العمالة الموسمية في قطاع الزراعة في بريطانيا، إلى جانب الوظائف في قطاعات مثل الضيافة والترفيه والتي لن يظهر مدى الحاجة إليها بوضوح إلا مع تعافي القطاع من أزمة وباء كورونا.

تلك الملامح البارزة لما يمكن اعتباره اختيارا خاطئا بالخروج من الاتحاد بتلك الطريقة على الأقل. لكن هناك عشرات المشاكل الأخرى التي قد لا تحتل عناوين وسائل الإعلام ولا تتابعها الجماهير. منها على سبيل المثال لا الحصر، مشاركة بريطانيا البحوث العلمية والتكنولوجية الأوروبية. ورغم أن هذا التشارك يحكمه ميثاق منفصل عن عضوية الاتحاد، إلا أن الأوروبيين يتشددون مع بريطانيا بشكل قد يبدو متعنتا، وبشكل قد يحرمها من ميزات هائلة في البحوث التطوير في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية والطبية .. إلخ.

ولأنه لا يمكن لوم أوروبا الآن على أي سلبيات مثل هذه، فليس أمام مناصري بريكست سوى المغالاة في العنجهية بأن ذلك الخيار كان الأفضل لبريطانيا.