مع صعود الرئيس الأميركي جو بايدن إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة، بدا أن السياسة الأميركية تجاه الصين تتخذُ مسارا آخر يختلف عن الذي كانت تنتهجه واشنطن في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. مفارقة أن الولايات المتحدة في عهد بايدن، تؤمنُ بأن المنافسة المحتدمة مع الصين لا تحولُ دون المحافظة على خيوط اتصال نشيطة معها.
بهذا المعنى فإن واشنطن تبحث عن المزيد من الاهتمامات المشتركة مع بكين، تدعمُ نقاط الاتفاق القليلة والنادرة بين البلدين مثل الاهتمام المشترك بقضية المناخ (الصين والولايات المتحدة مسؤولتان عن أكثر من ثلث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم).
الرئيس الأميركي جو بايدن، شدد خلال القمة الافتراضية التي جمعته بالرئيس الصيني شي جين بيينغ يوم الخامس عشر من شهر نوفمبر الماضي، على ضرورة وجود حواجز أمان بين البلدين تمنع اندلاع "نزاع" بينهما، وتبقي التنافس في حدوده الاقتصادية والتجارية. قمة افتراضية انعقدت في سياق موسوم بالتوتر بين البلدين، على خلفية تراكم القضايا الخلافية من قبيل الحرب التجارية وقضايا حقوق الإنسان، فضلا عن المواقف المتناقضة من قضية تايوان، وذهب الرئيسان إلى القمة بنيّة تخفيف بعض مظاهر التوتر والبناء على نقاط الالتقاء القليلة مثل الرؤية المتقاربة لمكافحة التغير المناخي.
يمكن قراءة الاهتمام الأميركي المتزايد بالصين، بوجهين متناقضين ومتكاملين؛ الأول يتمثل في المرابطة الأميركية في مربع المواقف الصارمة من السياسة الصينية، والثاني يقوم على محاولة تحسين التواصل والتعاون بين البلدين انطلاقا من مسؤولية الطرفين تجاه العالم، وانطلاقا من الوعي الأميركي بأن "الدفاع عن المبادئ لا يمكن أن يكون منفصلاً عن مخاطر العالم الواقعي"، وفق تعبير راجان مينون أستاذ العلاقات الدولية في كلية نيويورك في مقال نشره أواخر شهر نوفمبر الماضي في صحيفة "لوس أنجيليس تايمز".
على أن هذا التقارب الأميركي من الصين، على الرغم من أهميته ودقة مساره في اللحظة العالمية الراهنة، ينفتحُ على أكثر من قضية. حيث تقرأ بعض التحليلات العربية ذلك التقارب من زاوية التساؤل على تأثيره على منطقة الشرق الأوسط، وهل سيؤدي إلى تراجع للدور الأميركي أم لا؟ وهل سينتجُ أشكالا جديدة للعلاقة بين واشنطن وحلفائها في المنطقة؟ أما البعد الثاني للقضية فيذهب إلى الداخل الأميركي ويطرح مسألة نظرة الحزبين الديمقراطي والجمهوري لسياسات بايدن الراهنة، وما أحدثته من قطيعة مع سياسات ترامب.
في البعد الأول المتصل بالحضور الأميركي في الشرق الأوسط، يبدو أن الاهتمام الأميركي بالصين، بالعصا أو بالجزرة، لا يعني أن ذلك يحيل إلى تخلّ أميركي عن الشركاء التقليديين لواشنطن في المنطقة، بل إن الأقرب للمنطق السياسي أن ذلك سيعزز تشبث أميركا بحلفائها. وذلك عائد إلى سببين على الأقل؛ السبب الأول أن الولايات المتحدة ما تزال محافظة على شبكة كثيفة من العلاقات والتحالفات، مثلما تحافظ على نسيج مترامي الأطراف من القواعد العسكرية التي تطل من خلالها على المنطقة وعلى العالم، ومن ثمة على الأمن الإقليمي والعالمي، فضلا عن كون الأحداث الإقليمية التي تنذر بالمزيد من العنف وعدم الاستقرار،
تشدد على أهمية الوجود الأميركي في المنطقة، وعلى ضرورة تعزيز تلك التحالفات. السبب الثاني هو أن غالبية الفاعلين السياسيين في الولايات المتحدة (من الديمقراطيين ومن الجمهوريين على حد السواء) يتفقون على ضرورة التركيز السياسي والعسكري على إيران، ما يعني أن انهيارا محتملا للمحادثات النووية مع طهران سيزيد من أهمية الوجود الأميركي في الشرق الأوسط. وبهذا المعنى فإن الإجماع الأميركي على ضرورة الاشتغال على مستقبل المنافسة الإستراتيجية مع الصين، لن يؤدي إلى تغيير ملحوظ في خارطة التحالفات الأميركية في الشرق الأوسط.
وفي ما يتعلق بنظرة الحزبان الديمقراطي أو الجمهوري لسياسات بايدن الخارجية، فإن ذلك يبدأ أولا من الاطلاع على مظاهر التراجع في شعبية جو بايدن، التي أكدتها الأرقام الواردة في آخر استطلاع للرأي لـ"أسوشيتد برس" بالتعاون مع مركز "نورك" للأبحاث والتي أظهرت أن 50 في المئة فقط من الأميركيين يوافقون على أداء بايدن مقابل 49 في المئة يعارضون أداءه في البيت الأبيض. هذا التراجع يعود لتداخل المواقف بين السياسة الخارجية الموسومة بعدم الوضوح (الترنح في مواجهة إيران ومآلات الانسحاب من أفغانستان وعدم الحسم في مواجهة الصين وأزمة الغواصات مع فرنسا)، وبين السياسات الداخلية التي تتصف بالضبابية وعدم النجاعة، سواء في ما يتعلق بأسئلة الديمقراطية في الولايات المتحدة أو بخطط مواجهة وباء كورونا، أو حتى الأسئلة المتعلقة بصحة بايدن نفسه، وكل ذلك تضافر مع غيره من القضايا الداخلية الاقتصادية والأمنية، ليجعل شبح الانتخابات النصفية في الكونغرس يخيمُ على العقل السياسي الأميركي، سواء في شقه الديمقراطي أو في شقه الجمهوري. يقرأ الديمقراطيون، كما الجمهوريون، أداء بايدن ويستطلعون وضعه الصحي، بمنطق تأثير ذلك على الانتخابات الرئاسية للعام 2024.
في هذا الصدد يحاول الديمقراطيون، تعديل سياسة بايدن الداخلية والخارجية، بما يمنع تواصل انحدار الحزب، حيث خسر الديمقراطيون في الانتخابات التي أجريت الشهر الماضي لاختيار حاكم ولاية فرجينيا، وفاز المرشح الجمهوري جلين بونجكين على حساب الديمقراطي تيري ماك أوليف، ومثلت هذه الخسارة انتكاسة للديمقراطيين باعتبار أنه كان ينظر لولاية فرجينيا على أنها ولاية ذات ثقل ديمقراطي ولم يفز الجمهوريون فيها بالسباق الانتخابي منذ العام 2009. يتوجس الديمقراطيون أيضا من خسارة ولاية نيوجيرسي، التي تعني بالنسبة لهم أن الجمهوريين بصدد توسيع شعبيتهم في الولايات الزرقاء الديمقراطية التي مكنت بايدن من الفوز في الانتخابات السابقة. ويزداد هذا التوجس مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي في الع_ام 2022. يقرأ الديمقراطيون أرقام بايدن الأخيرة وتراجع شعبيته الناتجة عن إخفاقه في توحيد البلاد ومواجهة الأزمة الاقتصادية، بتخوف شديد ما يحتم عليهم محاولة تعديل السياسات الداخلية والخارجية علهم ينقذون مستقبل الحزب من هزيمة محدقة.
ولذلك كله فإن الرهان الديمقراطي يقوم حاليا على كلمة مفتاح هي الإنعاش الاقتصادي. ولا يتحقق الإنعاش الاقتصادي إلا بسياسة داخلية متماسكة، تقوم على إدارة ناجعة لما يترتب عن وباء كورونا، ونجاح مشروع قانون إنقاذ الاقتصاد الذي طرحه بايدن. والإنعاش الاقتصادي يتحقق أيضا بسياسة خارجية عقلانية ترمم تركة الرئيس السابق دونالد ترامب وتقطع مع الضبابية المنتهجة مع الحلفاء ومع الخصوم، والتي برزت في سحب واشنطن لمنصات صواريخ الباتريوت من السعودية قبل الهجوم على منشآت النفط في بقيق، والتردد الأميركي في إتمام صفقات الاسلحة، وتتخذ مزيدا من الحسم فيما يتصل بالملف الإيراني. والثابت أن منطقة الشرق الأوسط تحضر في كل مفاصل السياسة الخارجية الأميركية، سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، باعتبار حجم المبادلات الاقتصادية بين واشنطن والمنطقة، وباعتبار عراقة التحالفات القائمة بين الطرفين، وبناء على ذلك فإن العلاقة بين الولايات المتحدة والمنطقة لن تتأثر بالتغيرات التي يمكن أن تطرأ على السياسات الخارجية للولايات المتحدة لكن هذا الحكم يشوبه شيء من الشكوك الخليجية التي ترى أن واشنطن قد تغيرت وأن اهتمامها بالشرق الأوسط قد فتر.
لكن ما هي الخطوات التي يجب على دول الخليج نهجها كي تصوغ استراتيجية دفاعية قوية بعيدا عن المشاركة الأميركية، يعتقد الخبراء أن على الخليجيين أن ينتهجوا سياسات مفتوحة المصادر، وأن يقتربوا من الصين وروسيا كثيرا، وأن تكون علاقاتهم غير مقيدة، وعليهم مقاومة الضغوط الأميركية التي تستغبي الإرادة الخليجية ففي الوقت الذي تطالب غيرها بأن يكون إما معها أو مع الصين، تقوم بإدارة علاقات تعاون فاترة وغير قوية ولا تلتزم بالتعاون العسكري كما كانت سابقا، ولعل ما حدث في أفغانستان جرس انذار مهم لحلفاء واشنطن في المنطقة ويشي بالكثير من وجوب تغيير الاستراتيجيات وأن العصر الأميركي في الخليج في طريقه للتلاشي.
ما تقوم به الإدارة الأميركية الديمقراطية يوضح لنا أن المتغطي بأميركا عريان وأن ما تفعله واشنطن ليس سوى الانتقال من الدفاع العام المباشر الى الدفاع الانتقائي المرهون بوجود رعايا أمريكيين، مما يحفز الخليجيين على الاتكال على شراكات اقليمية تعجل بمواثيق سلام اضافية لتنشيط ونشر الدفاع الاقليمي متعدد الأطراف، وكان للموقف الأميركي باستمرار استبعاد دول مجلس التعاون من الجولة الجديدة لمفاوضات النووي الإيراني أمر عزز عدم الثقة في واشنطن الزرقاء، إن ترك دول المنطقة لتعيد رسم هياكلها الدفاعية ذاتيا شريطة شراء العتاد الأمريكي، وكانت أمريكا سابقا تشرط رسم الأولى باقتناء الثانية يتوج رأس جبل التشكك الخليجي الذي حان وقت تغيره واتجاهه لبناء مظلات صلبها قوتهم الذاتية واطرافها التحالفات الجديدة مع. لاعبين دوليين واقليميين آخرين.