الحديث عن حكومة (الغالبية السياسية أو الوطنية) ليس جديدا في العراق، فقد طُرح سابقا مرات عديدة، منذ بدء العملية السياسية الكسيحة الحالية، لكن الحديث سابقا لم يكن جديا، بسبب كثرة الجماعات المشاركة في الانتخابات، وعدم بروز جهة سياسية واحدة متماسكة وواضحة المعالم.
أما اليوم فهو جدي بسبب وجود جهة سياسية محددة فائزة، ألا وهي الكتلة الصدرية، التي تتمتع بشعبية في مدن عدة، خصوصا بين شريحة الفقراء، والتي ساعد على إبرازها النظام الانتخابي الجديد، الذي تبناه البرلمان العراقي السابق على عجل إثر انتفاضة تشرين.
النظام الانتخابي المتعدد الدوائر في العادة يبرِز القوى الأكثر شعبية، وفي الوقت نفسه يهمِّش القوى الأقل شعبية، حتى وإن كان الفارق ضئيلا بين الطرفين. ومن طبيعته أيضا أنه يهمِّش كليا الجماعات والأحزاب الصغيرة أو الأقل نفوذا، وهو نظام تلجأ إليه في العادة البلدان التي المتماسكة، أو التي تضم مجتمعات لا تعاني انقساما شديدا حول الثوابت الوطنية.
كنت قد انتقدت اللجوء إلى هذا النظام الانتخابي، وقلت سابقا وأقول حاليا، ولست هاويا أو متطفلا على الموضوع، فهو من صلب اختصاصي الأكاديمي، إنه لا يلائم العراق لأنه بلد يعاني من انقسام مجتمعي وسياسي حاد حول ما يسمى في البلدان الراسخة بالثوابت الوطنية.
الانقسام المجتمعي في العراق حاد وصارخ بين الجماعات السياسية وأتباعها وقواعدها الشعبية، ومما يزيد هذا الانقسام حدة هو الدعم الذي تتلقاه القوى المتشدقة بالدين من دولة أيديولوجية متطرفة وفاشلة، تعادي معظم الدول المحيطة بها، وتحاول أن تجعل من نظامها القروسطي سائدا في الدول الأخرى، كي تكون تابعة لها سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
المشكلة الأخرى في العراق هي أن الجماعات السياسية الرئيسية المتنفذة هي جماعات دينية يقودها رجال دين، وهذه الجماعات، شاءت أم أبت، هي جماعات انتظمت على أسس طائفية أيديولوجية، فالجماعات الدينية في كل الأديان والبلدان لا تستقطب سوى المتزمتين والانتهازيين من أبناء الطوائف التي ينتمي إليها قادتها، وهي بالضرورة منقسمة طائفيا، بل باعثة على الانقسام في البلد، أي بلد.
مشكلة تشكيل الحكومة في العراق تبرز بعد كل انتخابات، خصوصا المزورة منها، ومعظم الانتخابات العراقية مزورة كليا أو جزئيا، لأن كل جماعة (فائزة) تريد حصة لها في الحكومة، لأنها تعلم جيدا أنها، إن بقيت خارج الحكومة فلن يكون لها شأن، ولن تستطيع أن تجمع أموالا وتكسب شعبية، استعدادا للانتخابات المقبلة التي ستعمل بقوة على الحصول على تمثيل فيها، يتناسب مع نفوذها المالي والسياسي.
الكتلة الصدرية التي حصلت على 73 مقعدا هي الفائز الأكبر، لكنها لا تستطيع أن تمتلك الحق الدستوري لتشكيل الكتلة الأكثر عددا، إلا عندما تتحالف مع كتل أخرى ككتلة (تقدم) بقيادة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، والكتلة الكردية برئاسة الزعيم الكردي، مسعود البارزاني، والكتل الاخرى التي تنضم لهاتين الكتلتين.
ورغم إصرار الصدريين على تشكيل حكومة "غالبية وطنية"، أو ما يسمى في العراق (أغلبية)، رغم أن التسمية خاطئة منطقيا، فلا وجود للتفضيل هنا، لأن الغالب هو دائما طرف واحد، لكن المشكلة التي تواجه التشكيل هي الكتل الأخرى (الكردية والسنية) التي أصرت، سابقا على الأقل، على أن يكون هناك (موقف شيعي موحد)، أي أن على الفائز الأكبر أن يتشاور مع الفائزين الآخرين من طائفته ويرضيهم بمناصب أو امتيازات، كي تقبل به الكتل الطائفية والقومية والمناطقية الأخرى. بعبارة أخرى أن معظم الكتل الفائزة حتى في هذه الانتخابات، التي تعتبر أكثر نزاهة وشفافية من سابقاتها، تصر على الاصطفاف طائفيا ومناطقيا وقوميا!
زعيم الكتلة الصدرية، مقتدى الصدر، ما زال مصرا على مغادرة الاصطفافات الطائفية والمناطقية السابقة، وهذا موقف وطني يُسجَّل له، ويجب أن يصر عليه مهما كانت المعوقات، فلا فائدة تُرتجى من تقسيم الشعب العراقي إلى سنة وشيعة ومسيحيين وأيزيديين وصابئة وعرب وأكراد وتركمان، وجنوبيين وغربيين وشماليين ووسطيين، فهذا التقسيم أضعف الدولة العراقية، وأفقد الشعب الثقة المعهودة بالدولة الواحدة، الراعية لحقوق جميع المواطنين، ومعاملتهم على قدم المساواة.
التنوع الديني والقومي والثقافي موجود في معظم بلدان العالم، ويجب ألا يكون سببا لإضعاف المجتمع والدولة، بل هو في أكثر الأحيان، إن توفرت الحكومة القوية المُفعِّلة للقانون، عامل تماسك ووئام، بل دافعٌ قوي نحو التطور والابداع، أكثر بكثير مما لو كان المجتمع كتلة صوّانية متناغمة ومتفقة على كل شيء، وكأنها قوة عسكرية ملتزمة بالتعليمات الصادرة لها من الجهات العليا.
الشعوب العصرية يهمها التقدم وتحسين ظروف حياة أفرادها، وتوفير الخدمات الأساسية وتحقيق الإنجازات العلمية والاقتصادية، واحترام الحريات العامة والخاصة، ورفع معدل السعادة بين أفرادها، ولا تعير اهتماما للأفكار والمعتقدات البالية التي يتشدق بها بعض سياسيي العراق، الذين حاولوا استغلال طيبة الشعب وبساطته، وغفلته في مرحة معينة، كي يقفزوا على السلطة ويحققوا مكاسب شخصية وعائلية.
القوى التي تعتبر نفسها خاسرة في الانتخابات الأخيرة، أو التي لم تحصل على الصدارة التي تؤهلها للتفاوض على المناصب المهمة، الجالِبة للمال والنفوذ، وهي قوى مسلحة تدعمها دولة أخرى، تصر على رفض النتائج، فالانتخابات بالنسبة لها، إما أن تأتي بها إلى الحكومة أو أنها "مزورة بالكامل، وقد زورتها الأمم المتحدة بدفع من الولايات المتحدة"! الطريف أن الأمم المتحدة والولايات المتحدة لم تسعيا (لتزوير) الانتخابات السابقة التي (فازت) فيها هذه القوى، التي تعلم جيدا أنها أصبحت منبوذة شعبيا ودوليا، بسبب كذبها المفضوح وأفكارها المتطرفة وتبعيتها لدولة أخرى وعدم امتلاكها أي برامج سياسية أو اقتصادية لتطوير البلد وتحسين الخدمات المقدمة للشعب.
أحد قادتها ادعى في الانتخابات الأخيرة أنه لم يتمكن من تقديم الخدمات "للمحافظات الجنوبية" لأنه (من أتباع الحسين)! وهذه حجج واهية لم تعد تنطلي على أحد، فالناس، في عصر الإنترنت والفضائيات والاتصالات ووسائل التواصل والإعلام، أصبحوا واعين لما يجري حولهم، والشباب العراقيون تحديدا، يتطلعون إلى دولة مختلفة تماما عن تلك التي يريد ترسيخها قادة الفشل والجهل والتبعية، وقد قدموا تضحياتٍ جساما خلال العامين الماضيين في سبيل هذا الطموح الذي سيتحقق دون شك، لأن إرادة الشباب صلبة لا تلين، وكل أعمال القمع والقتل والخطف لم تجدِ نفعا معهم، بل زادتهم تصميما وعزما على المضي قدما لتحقيق هذا الطموح المشروع.
القوى الخاسرة تسعى بطرق متنوعة لتغيير النتائج لصالحها، من تقديم الشكاوى إلى المحكمة الاتحادية، والطعون إلى مفوضية الانتخابات، إلى تنظيم التظاهرات والاعتصامات، والتهديد بتقويض السلم الأهلي. هناك محاولات لإرضاء القوى الخاسرة، على ما يبدو، بمنحها مقاعد نيابية على حساب القوى الجديدة المستقلة غير المسلحة، عبر إلغاء فوز بعض المرشحين المستقلين والاتيان بمرشحين منها، كما حصل في بابل مؤخرا، عندما ألغي فوز المرشح أمير المعموري، واستُعيض عنه بالمرشح الخاسر سابقا، صادق مدلول السلطاني، الذي ينتمي إلى جماعة عمار الحكيم الخاسرة، وكان يشغل سابقا منصب محافظ بابل، وتقديم حجج غير مقنعة لهذا الإلغاء. مثل هذه المحاولات، تزعزع الثقة بمفوضية الانتخابات وبالنظام السياسي كله، وهي بالتأكيد ليست في مصلحة أحد، لا الفائزين ولا الخاسرين، لذلك يجب الالتزام بالنتائج الحقيقية من أجل تعزيز شرعية النظام السياسي.
الشعب العراقي يتطلع إلى حكومة جديدة، قوية، مخلصة، مكونة من خبراء أكْفاء، وعلى القوى الفائزة التي تسعى إلى تشكيل الحكومة المقبلة، ألا تتمسك بالشخصيات المجربة التي فشلت سابقا. ليس هناك ناجح بين الذين تولوا مناصب في العراق. كلهم فشلوا، والدليل هو التراجع المريع في الأمن وتزايد حالات الخطف والقتل للمثقفين والأكاديميين والناشطين السياسيين، من أصحاب الرأي المختلف، وتدهور خطير في حقوق الإنسان وفي الخدمات الأساسية التي تقدمها الدولة للشعب، من كهرباء وصحة وتعليم وخدمات بلدية، وارتفاع الفقر إلى أكثر من 30 بالمئة من الشعب، على الرغم من الثروة الهائلة التي يتمتع بها العراق.
يجب على القوى الفائزة أن تبحث عن شخصيات وطنية تتمتع بالخبرة ولديها إنجازات وسجل ناجح في مجالات تخصصها، سواء في الداخل أو الخارج، وتتميز بالسماحة والمواقف الوطنية والالتزام بمبادئ العدل والإنصاف والديمقراطية، وأن تبتعد عن الشخصيات الفاشلة المحترقة التي أخذت فرصتها ولم تحقق سوى الخيبة وتأجيج العنف وإضعاف الدولة وانقسام المجتمع وإفقاره.