"تحديد وقائع الميثولوجيا، هو قبل كل شيء مهمّة باحث القدامة، أمّا خيار الفيلسوف فهو تأكيد عمّا إذا كانت هذه الوقائع مطروحة بما تستحقّ من امتلاء".
شيلّلينغ.
"أوبانيشاد"، المدجّج بذخيرة الزمن الضائع، يتحفنا بالحكمة القائلة بخطورة الإعارة، الإعارة من حيث المبدأ، لأن تجربة الأجيال برهنت كم هو تجريفٌ أن نبيح منح امرأة، أو مال، أو كتاب على سبيل الدَّين، لأننا نخالف بذلك ناموس الطبيعة التي لا تعترف بوجود عطاء على سبيل الإسترداد، فتسخّر الغيوب كي تقتصّ منّا جزاء هذه الخطيئة، فنتلقّى المرأة مزيّفةً، مبتذلة جسداً وروحاً؛ والمال مدعوكاً، تالفاً، ومدفوعاً على أقساط، والكتاب مستباحاً مهلهلاً، ومشوّهاً، فتصدق فيه الوصيّة الشائعة، القائلة: «مغفّلٌ من يعير كتاباً، ومغفّلٌ أكثر من يعيد كتاباً تلقّاه على سبيل الإعارة». لأن الحكمة، التي تسكن المخطوط، بنت بيتها، كما يتغنّى سفر الأمثال، ولا تحتمل اللهو. فإذا كان الله لا يلعب النرد، بيقين آينشتاين، فإن الطبيعة لا تغتفر التجديف في حقّ العطاء، لأن عرفها هو الذي قضى بحقيقة الهبة التي لا تعود على عقبيها بطبيعتها، وما الإسترداد سوى استهتارٌ بهذا الناموس، وتجديفٌ صريح في حقّ ما انقلب حقّاً مكتسباً منذ اللحظة التي تحرّر فيها من أيدينا، ليحطّ الرحال في أيدي أغيار، فيغدو في راحاتهم غنيمة، تخفق حتى الأقدار في الأحتيال لانتزاعها من هذا المستقرّ، من هذا القبر!
فالمرأة هي ما لا يوهب على سبيل الإعارة، لأن بكارة الروح فيها أعظم سلطاناً حتّى من بكارة الجسد، ووقوع الأخير غنيمةً في أيادي الأغراب، لا يحتكر لطخة الدنس، ولكن الحقنة الخبيثة تنتقل لتتسلّل إلى حرم الروح، فيهيمن الفَقد.
أمّا الجود بالمال على سبيل الإعارة فدرسٌ آخر في ميتافيزيقا العطاء. فما نقدّمه بموجب نيّة في استعادة، ونخلع عليه إسماً غامضاً هو الإعارة، هو، في عرف الغيوب، تنازٌل: تنازل مطلق الصلاحية، بقطع النظر عن القيمة، المترجمة في حرف هذا الفعل الخطر، الذي لا ندرك خطورته إلّا بعد فوات الأوان عادة، أي عندما ننتظر استعادة العطية، مطمئنّين أن ما أفلتناه من أيدينا هو: دَيْنٌ، أي إعارة محكومة بأجلٍ غير مسمّى.
وألّا يُسمّى سبب كافٍ للإعتراف به كهدية. وانتطار الحصول على ما قدمناه على سبيل الإهداء هو وَهْمٌ، بل هو بمنطق الأشياء تجديف في حقّ مقدّس هو الجود، واستهانة بناموس السّخاء. وهو ما يعني أن الإعارة هي نوع من صفقة تعاني من سوء الفهم من حيث المبدأ، أي بمنطق القوانين التي تحكم واقعاً مكبّلاً بشبكة علاقات، هي أشراك تغترب في مسرحها القيم، الخاضعة لروح نفعية آثمةً بسليقتها، لأن الصفقة التجارية هي دين المجتمع. هذه الروح هي ما يحيل الدَّيْن، أي المال المدفوع كسلفة، أي القابل للإسترجاع، إلى غنيمة لا نخسرها فقط، عندما يحين الميعاد، ولكننا نخسر القطب المقابل في الصفقة، بل ونكسبه كعدوّ أيضاً، بعد أن نكون قد فقدنا المال أيضاً بالطبع. يحدث هذا لأن ما نطلقه من أيدينا يستعير خصالاً غيبيّة، تستعصي على الترجمة إلى لغتنا الدنيوية.
فالمفهوم، بمنطق الطبيعة، وبمنطق ترجمانٌ هو الغيوب، يقول أن ما نفلته من أيدينا هو غنيمة غيوب. هو مبدأ مفقود، لأن العطاء تنازل. العطاء تحرير لشيء، لقيمة، بقصد تحريرنا من أسر، تحريرنا من خطيئة تسكن الملكيّة، ممّا يستنزل في العطيّة القربان. والقربان هو ما يهب فعل التنازل صيغة إيثار. صيغة تضحية نجود بها لنشتري بها حريةً: حريّة هي أعظم شأناً من كل حطام أدركنا مراراً كم هو باطل أباطيل. فهي، في هذا البُعد، الحرية التي تحقق الخلاص، الحرية التي تحقق القداسة، بحيث تتحوّل النيّة في الاسترداد جنساً من خيانة. خيانة للعهد المبرم للتوّ٬ مع جناب غيوب معصومة من رذيلة كالمزاح! خيانة للعهد المبرم مع الطبيعة التي لا تعترف باللعب أيضاً، لأن انتظار استعادة الهبة، المنذورة لوجه الله، ليس مجرد وقاحة، ولكنه تجديف في حقّ مكتسب، تجديف في حقّ حقيقة لا وجود في ناموسها لمفهوم استرجاع. هذه الطبيعة الخفيّة في الجود بعرق الجبين، لشراء حرية، هي شرط الإحساس بالسعادة، هي العقدة التي جعلت من استعادة الفردوس المفقود ضرباً من محال، لأن مبدأ الفقد فيه مطلق منذ أن خسرناه، ومحاولة استعادته من منافي الضياع، جنسٌ من عبث!
هنا، في هذا البُعد العصيّ، ينتصب أمامنا شبح التحدّي، الذي سيعترض سبيلنا ما أن نحاول استعادة أي ثروة اغتنمها منّا يوماً جناب الضياع، والذخيرة النفيسة، التي اعتدنا أن نخلع عليها لقب الأسطورة، لن تكون استثناءً في هذه المبارزة. وهو ما لم يكن ليفتننا لو لم تطلق لغة أمّة الملثّمين على هذا الكنز، المدعو أسطورةً، إسماً مثيراً للفضول هو «إيمَايّان»، الذي يعني في الترجمة الحرفيّة: المهملات، أو المتروكات، أو المهجورات، أو المنسيّات. وهو مصطلح يعتنق صيغة الجمع في اللغة، ولا يعترف بصيغة المفرد. فلماذا تشرّف لغة الأوائل علماً خطيراً كالميثولوجيا، باسم متواضع، أو يبدو متواضعاً، يسكن كلمة بسيطة، ذات مترادفات تبدو أيضاً بريئة، ولا تدّعي لنفسها استثناءً في الخصال، كما يليق بكل الأشياء التي أخفت في عبّها نصيباً من حقيقة؟
من الطبيعي أن تكون البساطة لغزاً مثيراً للفضول، وإلّا لما صارت في منطق الحكمة الفضاء الذي اصطفته الألوهة ليكون لها مقاماً.
فما يغيب عنّا أن التنازل لأحدٍ مّا، عن قيمةٍ مّا، هو، في منطق الغيوب، وبمنطق طبيعة الأشياء، تضحية عن طيب خاطر، أي عن خيار، بهذه القيمة، حتى لو حسبناه بمنطقنا دَيناً، أو شيئاً مُعاراً، ننتظر استعادته بعد جودٍ، هو فقد بمفهوم واقعٍ يستنزل فيه هويّة «التركة»، بوصف التركة إحساناً، نتركه وراءنا نذراً للأغيار، سواء أكان في صيغة إرث لأخلاف،أو في حرف وَقفٍ من نصيب معابد.
فما نتركه، نتخلّى عنه. وما نتخلّى عنه بقطع النظر عمّا إذا كنّا نتركه ليشفع لنا، أي في ماهيّة إحسان، أم نتركه لنهمله استهانةً به، أو زهداً فيه. فالتخلّي هنا موقفٌ جديرٌ بالتأمّل حقاً، لأن ما نتخلّى عنه مسكون أيضاً بروح خفيّة لا تعدم أن تبادلنا التخلّي. بل كثيراً ما تقرأ عداوةً في موقفنا منها عندما نتخلّى عنها، فتضمر لنا عداوةً جزاء خيانتنا لها. وعلّ أقوى دليل على هذه النزعة هو موقف الأمكنة منّا عندما نهجرها. فهي لا تلبث أن تتحوّل أطلالاً تستقبل في رحابها الأشباح كي تلحق بنا الضرر في حال عدنا على أعقابنا لنسكن إليها. فالدّمن، أو طلول الأمكنة المهجورة، هي وطن الأرواح الشريرة في يقين جلّ الأمم. وما يصدق على العطايا، أو على الأمكنة، يصدق أيضاً على بقيّة ذخائر زمننا الضائع، الذي لم يكن ليضيع لولا استخفافنا بفحواه. والأساطير بالطبع هي صحيفة تجربتنا الوجودية، الغنيّة بحصيلتنا الروحية، تصلح شهادة على حضورنا في ماضٍ هو تاريخيّ يقيناً، لولا تدخّل روح التخلّي، لتصيب الذاكرة بذلك الخلل الماكر، الذي يزوّر الواقع الحرفيّ، المسمّى في لغتنا تاريخاً، ليستعير هوية الغنيمة المنسيّة، المجبولة بروحٍ شعرية، بل والمسكونة بطبيعة سحرية.
والسؤال هو: ما سرّ هذا الورم اللئيم الذي يصيب ذاكرة الأمم بالخرَف، بحيث تعتمد الاغتراب ديناً في علاقتها بماضيها؟
فإذا شئنا الاقتراب من واقع الماضي، وتنصّتنا على رطانات الروح لجسّ نبض الأمّة، أية أمّة، تحيا تجربة نحت المفاهيم في صلد وجودٍ مازال يعاند طينةٍ بكرٍ، فحقّ لنا أن نستفهم عن حقيقة الذخيرة الجديرة بالاستغناء عنها، لتغدو وصيّةً متروكةً، نستطيع أن نستصدر بحقها حكم النسيان، لتكتسب ماهيّة المنسيّ؟
الطبيعة الانسانية هي ما سَنّ الناموس الذي سقط بموجبه مبدأ مّا، في قيعان عدمٍ سمّي نسياناً، مترجماً في حرفٍ بسيطٍ من صنع الوقت وهو: التقادم. فما هال الإنسان هو مشهد واقع تتقادم فيه الحصيلة، وتهرم، وتدبّ في أعطافها ورم الفساد، دون أن يفلح هذا الإنسان في العثور على ترياق لإيقاف هذا النزيف في حقّ ذخيرة هي بمثابة رأسمال في مؤسسة تشكّلت لتستوي في صيغة وجودٍ هو، بمنطق الطبيعة، حدث، جرى التعبير عنه في اليونانية بنعتٍ، ما لبث أن غدا مصطلحاً، هو: Einai الدالّ على الاستحداث، أي اختلاق مبدأ كان حتى وقت قريب غنيمة مجهول هو العدم، فإذا بشهود العيان يطلقون عليه إسماً ملهماً، يزاوج بينه وبين الرقم التاسع في حساب العدد، في المنطوق، كما ورثناه في لغات حوض المتوسّط، ثمّ يتعدّى حدود المنطق، ليترجم لنا حقيقة الإستواء كشرط لاستكمال أعجوبة الخلق، تهديها لنا حكمة الرقم التاسع بهويّتها كاحتواء يجُبُّ في صلبه كل الأعداد، بدليل أننا سنكتشف هذه العبقرية بتأمّل طبيعة هذا الرقم السحري من نقطة المصدر التي هي الصفر، ثم تنامي الأعداد من الواحد الأحد حتى بلوغنا، في ملحمة صعودنا، إلى تخوم سعود التسعة، لنلاحظ اكتمال سقف الكيان في هذا البرزخ، لأن ما سيلي من أرقام ما هو إلّا تكرار مما سبق من أرقام، بدليل العشرة، التي ليست سوى بداية عودة للعدّ من جديد، كل ما يحدث أننا نلاحظ الإبدال في موقع الصفر الذي سيحتلّ منذ الآن الجانب الأيمن من الرقم واحد، بعد أن كان يحتل الجانب الأيسر.
لفهم هذه المعادلة في سيرة الإستواء تهرع لنا اللغات للبرهنة على شرعيّتها. ففي لغة بدئية كالليبية القديمة، تطلق على الرقم التاسع في حساب الأعداد، إسم: تزّا، كما تجري على ألسنة أحفادهم طوارق اليوم، وهو مركّب من تاء تأنيث، وكلمة من حرف ساكن واحد هو الزّاي، الدالّ في هذه اللغة على فعل الحبك، أو النسج، أو صياغة أي كيان، ليستعير أمامنا طلعةً، أو كينونةً. وهو ما يدعّم موقفنا في شأن هويّته الدلاليّة كـ استحداث لواقعٍ كان يسكن البعد المفقود إلى وقت قريب، ولكنه الآن ماثلٌ أمامنا ككيان. كما نلاحظ اعتماد اللغة العربية لذات الفحوى في كلمة تسعة، حيث يرد في صيغة تأنيث أيضاً، ليليها مضمون الإتّساع، أي تلك الخاصيّة الباطنية القادرة بطبيعتها على احتواء ذخيرة مّا، جنين مّا، لا بسبب سعة الجوف وحسب، ولكن بسبب هويّة الأنوثة في الرقم: الأنوثة التي تقبّلت بطبيعتها احتمال وزر إنجاب العالم، ولم يكن التأنيث ليكتسب هذه القدسية في كل ديانات العالم القديم إلّا لهذه السجيّة الحاوية لخواءٍ يغري باستدراج الأجنّة لتكون في جوفه نواة!
ويأتي مفهوم السعة، أو الإتّساع، في العربية ليؤكّد هوية هذا الرقم الأكثر سحريّةً في عقلية كل اللغات، بدليل منطوقه في اللغات الأوروبية الدالّ على مبدأ الولادة، أو الاستحداث، كما في EInai اليونانية.
ولكن الهوية الغيبيّة الثرية للرقم التاسع لا تكتفي بهذه الذخيرة، ولكنها تضع حجر الزاوية في صرح الميثولوجيا كلّها عندما تستعير شرف المحفل: محفل الألوهة بالطبع. فالتاسوع في ديانة مصر القديمة هو حكرٌ على محفل الربوبيّة، والتاسوع في ديانة اليونان هو محفل ربّات الفنون. وهو ما يعني التيمّن بمواهب هذا الرقم القدسي الذي أبدع سرّ التكوين، وكلّنا مدينون له بوجودنا في واقعٍ حرفيّ. وهو لن يفاخر منذ الآن بما كوّنه، ولكن من حقّه أن يتباهى بما يسكنه. وها هو يحيل إلى لغز القدمة عندما يطلق إسم «هرو» على رب أرباب المحفل، الدالّ في اللغة البدئية على «القدمة» حرفيا؛ لأن القدمة، في العلاقة مع الحداثة، الكامن في مبدأ الاستحداث (einai) هي يقيناً حرم، هي قدس أقداس، ولذا فهي وحدها الجديرة بحمل لقب جليل كاسم ربّ الأرباب، المترجم في «رو» الدالّ في اللغتين المصرية والليبية القديمتين على القِدَم، أُضيف لها الـ«ها» الدالّة على القمقم، أو المأوى، أو البيت، ليصبح التعبير: «بيت القدمة»، أو «مقرّ القدمة»، كناية عن ربّ التاسوع.
وهو ما استعارته السومرية في ربّ الأرباب «هلو» بإبدال شائع بين الراء واللام معتمد في العبرية أيضاً، إلى جانب العربية والمصرية والليبية وجلّ لغات العالم، حيث يطلق عليه أبن منظور، مع حرف آخر هو النون، إسم «الحروف الذلق»، وينبّه إلى وجوب معاملتها كحرف ساكن واحد يروقها أن تتعاقب في اللغة.
فالربوبية إذاً إعجاز محكم، لا لترجمان بطبيعته سوى هذا الإنتماء الغيبيّ، الميثولوجي، الجريء، المعبّر عنه بـ «هرو»، أو «هلو»، أي ببساطة: القدمة. لأن القدمة وحدها أحجية ترفض بالطبيعة الإعتراف بوجود حدّ في امتدادها إلى الوراء، والخطيئة هي محاولة الوقوف على وجود هذا الحدّ، وهو ما عبّر عنه أبو بكر الشبلي بوصيّته العصيّة: «إنّي أغار على القديم أن يراه المُحدَث». فالقدمة ألوهةٌ، لإنها المحال الذي لا يُدرَك، ولا يُنال، لأنه الخالد في قدمته، المكتفي بنفسه، المتأمّل لذاته، كما يروق لأهل الفضول أن ينعتوه، والتجديف في حقّه هو إدّعاء الإنتماء إلى طينته، أو انتحال نسبه، ببساطة لأن المحدث (المستحدث) هوية مخلوق، أمّا القديم فوحده ماهيّة خالق المخلوق. ولذا فصفته المحو، وقدره الإغتراب من حصون الذاكرة.
ولكن «هرو» المستعار من خزانة القدامة، هو مجرد منزلة في معراج الأسماء، لأن الزمن الموبوء بوباء الفناء يستثير شهيّة الشعراء، بقدر ما يستفزّ عقليّة الحكماء، الذين يأبون إلّا أن يتغنّوا بذخيرة المرحلة ليستنزلوا المدلول الرسالي في وظائف أربابٍ ترطن بهويّتهم الأسماء.
في هذه المرحلة يأتي دور الـ «إل» ليتوّج واقع النفوس الظامئة إلى المعنى الذي لا وجود له خارج فردوس لغةٍ تترنّم بسحر الأسماء، فتنتصب الحاجة لمديح ملكيّةٍ، هي تميمة في ملحمة تلك المفاهيم التي بدأت تتلمّس أرضاً بكراً، بدأت طينتها تتشكّل للتوّ، لتقيم كيان وجودٍ، الإنسان فيه قطب. ومن الطبيعي أن تلعب الألوهة كمفهوم دور البطولة بوصف الربّ مالكاً لكل ما تحت قبّة السماء، وكل من سعى في الأسافل له خاضعٌ، أي له مملوك؛ وهو ما تفضحه اللغة البدئية في هذه المفردة المتواضعة ذات الحرف الساكن الواحد هو اللام المقدّسة، الدالّة على الامتلاك، لتُنطق إيلا إذا أضفنا لها الحروف الصائتة التي اختُلقت في مراحل تالية خصّيصاً لكي تلعب دور المعزوفة الموسيقية في لعبة اللسان، لتنقلب اللغة لا مجرد خطاب مثقل بالمفاهيم، ولكن إيقاعاً يحتفظ بحقّ حقن الملفوظة بما تستحقّ من لحونٍ، تستنزل في الكلم كمّاً مناسباً من شحنة شعر، لا طلباً لطرب، ولكن تقرّباً للإله؛ وهي التجربة التي أفضت إلى تشييد صرح الغناء الذي لم يكن في المبتدأ سوى ترويض الروح على الإبتهال، استجداء لشطحة وَجْد في رحاب المعبد، لتصير هذه المغامرة القدسية العفوية، مفتتحاً للأنشودة التي ندري اليوم كم كان الواقع سيكون مملّاً، وكم كان وجود الإنسان في هذا الواقع سيظلّ شقيّاً، لولا تدخّل هذه الحورية المسمّاة فنوناً.
فالروح الدينية، السارية في شرايين الفنون، وكلّ أجناس الإبداع، إنّما هي صنيع الميثولوجيا، التي تلبّست الواقع الإنساني في أزمة البُعد الضائع، قبل أن يعلن عن نفسه التاريخ.
ولكننا حتّى الآن، في بداية عراكنا مع أدغال واقعٍ كان محتجباً بأقنعة ماضٍ أسطوريّ، لا نملك حجّة لارتياده سوى فلسفة اللغة، في شقّها البكر، الفطري، المسكون بنزعة طفولة تليق بطفولة الإنسانية، ولذا وسمناها باسم البدئيّة، لهويّتها كنواة لجلّ لغات حوض المتوسط، مسلّحةً بالحرف الساكن الواحد الذي عوّل عليه الحكماء منذ القدم في اكتشاف سرّ اللغات قبل أن تتشظّى بلعنة البلبلة البابلية.
فالـ «إل» ذات موهبة أخرى، هي الإنوجاد، إلى جانب موهبتها كدليل على الملكيّة. فبإضافة حرف ساكن هو الميم، نحصل على «إمَل» الدالّة على الحضور. أي الحضور قيد الوجود بالطبع. وهي صفة قدسيّة استعارتها الربوبية في «إيميلي» التي تعني «الوليّ»، أي الربّ كصاحب حضور، والمخوّل وحده بأن «يُملي» أي أن يحكم. وهي صلاحية أبت نزعة الأوائل إلّا أن تعتمدها كناموس يقضي بالألوهة وحدها، دون سواها، أن تحكم، لغياب العدالة في ظلّ حكمٍ يتولّاه مخلوق فانٍ.
والولاية حقيق بأن تفضي إلى «مسّي» الدالّة على «مولاي»، وفي صيغة الجمع تصير «مسّينغ»، أو بلهجة أخرى «مسّينا»، كناية عن «مولانا»، كما اعتمدها اليونان والرومان في لغاتهم وخلعوها نعوتاً في حقّ مدنهم، مازال بعضها قائماً إلى اليوم، برغم فناء المدلول الأصلي الذي بثّته اللغة النواة في عروق اللغات المنبثقة عن اللسان البدئي، الذي كان له الفضل في رصف طريق المفاهيم في جلّ لغات العالم القديم، ليحقّ لنا أن نخلع هوية ميثولوجية في حقّ هذا اللسان الفطري الفذّ.
من الطبيعي أن تتوّج هذه السيرورة الميثولوجية في صعودها نحو منازل السموّ بإسم جدير في مدلوله بالألوهة، كما اعتمدته القبيلة العبرانية المرتحلة في «يهوا» كربّ هو وقفٌ عليها دون غيرها. ففي الكلمة تسكن ذخيرة مستعارة من لسان التكوين، لأن «يهوا» في اللغتين المصرية والليبية القديمتين وفي لسان أحفادهم طوارق الصحراء الكبرى، إنّما تعني «الميلاد» مترجماً في حرف عبقريّ اكتسب قداسة بسبب الفحوى وهو «الواو» الدالّ على صرخة الإستهلال لحظة التحرر من أسر القمقم، والإنبثاق في عراء الوجود. أمّا حرف «الهاء» في لغة النواة فيعني: جوف، أو بيت، أو مقام، لتكشف لنا البُنْية عن تعبير يقول: «مقام الميلاد»، كناية عن ماهيّة الربوبية كعلّة في إبداع معجزة الوجود، فاستحقّ، كسبب، أن يغدو منذ الآن معبوداً. وهو ما سيعني، في فلسفة العقل الميثولوجي، أن وجودنا، ميلادنا، أو مقامنا في هذا الوجود، إنّما رهين ميلاد الألوهة، أو وجود الألوهة، لتكتمل سيرة الخلق (كما تنعته المتون المقدّسة تالياً)، التي بدأت مسيرتها بمخاطرة مستغلقة على المنطق، لم تجد الذاكرة ما تنعتها به سوى «رو» (هرو)، لأن «القدامة» بوصفها ثقب المجهول العصيّ، هو اللقب الوحيد الذي يليق بكل ما اغترب عن التاريخ، وصار غنيمة في رصيد الزمن الضائع، نستطيع أن نحدسه، ولكن هيهات أن ندركه. ولهذا السبب كانت الألوهة، بمنطق الباطن، ضرورة، مشفوعةً بناموس الطبيعة نفسها، وليست ترفاً من صنع المخيال، كما يتوهّم مروّضو الحرف الذي يُميت.