"الفتنة" كلمة تنتمي للتراث اللغوي والديني في الثقافة العربية والإسلامية. جذرها التاريخي ينتمي للاقتصاد ويرتبط باختبار جودة المعادن النفيسة، الذهب والفضة خصوصاً، لمعرفة إذا كانت حقيقية أو مزيفة من خلال تسليط نار شديدة عليها، فإذا ذابت أو تكسرت أو تضررت، فإنها ليست حقيقية. إما إذا اجتازت اختبار النار هذا وبقيت على حالها الأولى، فهي أصيلة. من هنا انتقل استخدام الكلمة إلى المجال الديني، لتُستخدم استعارياً بمعنى الاختبار أو البلاء الشديد الذي يتعرض له المؤمن الفرد في علاقته بربه أو المؤمنين كجماعة لاختبار قوة إيمانهم. في القرآن الكريم، هناك الكثير من هذه الاستخدامات لكلمة فتنة في سياقات مختلفة (كما في فتنة الأموال والرغبات الحسية أو اغراءات الكفار وتحدياتهم).

استخدم المصطلح لوصف النزاع السياسي الدموي الأول في تاريخ الدولة الإسلامية الناشئة عندما حاصر محتجون غاضبون قادمون من أمصار الكوفة والبصرة ومصر إلى المدينة، عاصمة الخلافة الراشدة، منزلَ الخليفة الثالث، عثمان بن عفان، وطالبوه بعزل ولاة اعتبروهم فاسدين ومتسلطين. في حينها كان مجتمع الصحابة في المدينة منقسماً بين تأييد الخليفة المحاصر وتأييد المحتجين الوافدين. في آخر المطاف، أدى النزاع إلى مقتل الخليفة، وتدريجياً إلى تفكك الخلافة الراشدة بعد بضع سنوات.

عند استرجاع هذه الأحداث فيما بعد، في عصر التدوين بدءاً من القرن الهجري الثاني فصعوداً، اعتاد المؤرخون واللغويون والفقهاء على وصفها بالفتنة، كما فعلوا في وصف النزاعات الدمويةً التي اندلعت، وبعضها تأسيساً على قتل الخليفة السابق، في عهد الخليفة الراشدي الرابع، علي بن أبي طالب. وهكذا استقر معنى اصطلاحي جديد لكلمة الفتنة على أنه النزاع الشديد بين جماعات مختلفة في المجتمع يقود عادةً الى العنف وسفك الدم. في هذا المعنى الاصطلاحي السياسي الطابع للفتنة، ثمة انتقال من وصف علاقة فردية دينية بين المؤمن وإغراءات الحياة ومصاعبها التي تختبر صلته بربه، إلى أخرى جماعية وعلنية تصف العلاقة المأزومةً، بالعنف الناشئ عنها، بين الأفراد أو الجماعات المختلفة في إطار المجتمع الواحد. بخلاف المعنى الديني الفردي حيث يمكن أن تؤدي الفتنة إلى تعميق إيمان‏ المرء إذا تجاوز الاختبار بنجاح، فإن المعنى العام الثاني سلبي دائماً لأنه يربط الاختلاف (أو ما يصطلح عليه التراثيون بالخلاف) بالصراع والعنف وسفك الدم المرتبط بهما. ولذلك أصبحت الفتنة خطيئة دينية كبرى تستحق أشد أنواع العقاب.

تدريجياَ تطور معنى ثالث استبدادي لاستخدام كلمة فتنة يستند على المعنى الثاني العام ويضيف إليه، إذ اعتاد خلفاء الدول الإسلامية المتتابعة من أمويين وعباسيين وعثمانيين وغيرهم على نعت المعارضين لحكمهم السياسي بأنهم اصحاب فتن أو بدع، أي أولئك الذين يثيرون الفرقة والشقاق على أساس الفهم التراثي لهذه المصطلحين الإشكاليين. يفترض هذا الاستخدام الذي يغذي البعد الاستبدادي للكلمة امتلاك الحاكم للحقيقة التي يستطيع عبرها التمييز بين الأفعال على أساس تلك التي تمثل ضرراً على الصالح العام بوصفها فتن، وأخرى لا تمثل ضرراً بوصفها مجرد اختلافات مشروعة. أيضاً، يحصر هذا الاستخدام الاستبدادي للكلمة تقييم الأفعال بالنيات التي في صدور الأشخاص القائمين بها وليس بالوقائع في الحيز العام التي يراها الأشخاص سلبية، أو يعتقدون بوجودها السلبي وبالتالي يقررون أن يردوا عليها بأفعالهم، إما تصحيحاً لها أو احتجاجاً عليها، أو سعياً لتغييرها عبر الضغط أو حتى القوة. في إطار هذا الفهم الاستبدادي للكلمة، يصبح واجب الشخص "السليم" أن يتجنب الدخول في "الفتن" أو دعمها سواء عن دراية أم لا. في آخر المطاف، يصادر هذا الفهم حق المرء في التفكير بنفسه وتقرير ما هو صائب إزاء ما هو خاطئ على أساس منظومته الفكرية والأخلاقية. القبول بمفهوم الفتنة هذا يعني أن مهمة المجتمع والعائلة هي إنتاج أفراد منقادين، ليس لديهم القابلية لأن يفكروا على نحو يخالف الأفكار أو القيم المهيمنة في المجتمع.

من هنا يصبح استخدام "الفتنة" كوسيلة لتفسير الأفعال في مجتمع حديث يزدحم بالتنوع والاختلاف، يكون مصدر الحقوق فيه القيم القانونية للمواطنة المتساوية وليس الانتماء الديني الواحد، معادياً للديموقراطية ودعوةً لترسيخ الاستبداد، إذ ينطوي هذا الاستخدام على الوصاية الفكرية والأخلاقية للسلطة على المجتمع، وعلى استسهال هذه السلطة شيطنة اختلاف المجتمع أو شرائح منه معها أو احتجاجه عليها (ولذلك كثرة توظيف السلطات العربية "الفتنة" في وصف أفعال الاحتجاج والاعتراض عليها). يمكن لهذا بدوره أن يساهم في شرعنة العنف ضد المختلفين والمعترضين بوصفهم يمثلون تهديداً خطيراً للقيم الأخلاقية والسياسية "الأصيلة" و"الراسخة" للمجتمع عبر تقديم السلطة على أنها ممثلةً لهذه القيم وحامية لها. عبر كل هذا يُرسخ الفهم الاستبدادي للحياة من خلال افتراض واحدية المجتمع وانسجامه وضرورة الحفاظ عليهما. إن فكرة انسجام المجتمع واتحاده كله حول شخصيات أو قيم معينة هي ذاتها فكرة استبدادية رسختها أنظمة شمولية، كما اختصرتها الجملة البعثية العراقية المشهورة في عهد صدام حسين "إذا قال صدام، قال العراق." في العرف الاستبدادي، تعتبر "الفتنة" نقيضاً لهذا الانسجام المتخيل والأداة الخطرة لتقويض وحدة المجتمع.

في الحقيقة، يمثل استخدام وصف "الفتنة" في تفسير الأحداث العامة المرادفَ التراثي للمصطلح الحديث "نظرية المؤامرة،" لكن من دون حمولة دينية في هذا الأخير، فالفتنة هنا هي مؤامرة الآخرين ضد أخلاق المجتمع أو نجاح السلطة، وتستوجب رداً يتناسب مع "خبث" الذين وراءها. يمثل الاستخدام الحديث لكلمة "الفتنة" في الحيز العام استدعاءً مغلوطاً ومشوهاً للتراث لفهم الحاضر، ويكشف عجزاً فادحاً في التفكير وفي تقبل الاختلاف والتنوع والتفاعل معهما.

في مجتمع متنوع وحديث المكان الصحيح لمصطلح الفتنة هو في الحيز الفردي الخاص المرتبط بعلاقة المرء بالله وكيف ينظر إلى إيمانه، وليس في الحيز العام كأداة لتفسير الأفعال العامة وتقييمها والرد عليها.