بل يصحّ أن نعود بجذور هذه الفكرة إلى النّصف الأوّل من القرن السّابع عشر؛ حيث كان لتوماس هوبس، الفيلسوف الإنجليزيّ المدشِّن لفلسفة العقد الاجتماعيّ، الأثرُ الأكبر في تظهير فكرة المُلِكيّة العامّة: التي سيأخذها ماركس عنه بعد قرنين.

لكنّ ماركس، الذي يعترف بأثر الاشتراكيّة الفرنسيّة في تفكيره، أراد اشتراكيَّتهُ اشتراكيّةً علميّة لا اشتراكيّة طوبويّة، وأرادها واقعيّة منظَّمة لا فوضويّة. لذلك عَوَّل على أن تَحْمِل الفكرةَ نخبةٌ طليعيّة متسلّحة بعلمٍ مادّي تاريخيّ تنشُرها في صفوف الطّبقة التي أوْكَل إليها أدواراً تاريخيّة كبرى (الطّبقة العاملة). وهو بنى رؤيته إلى دورها على تحليله للنّظام الرّأسماليّ، في طوره الصّناعيّ، وتَبَيُّنِهِ كيف أدّت علاقات الإنتاج المتوسّعة إلى بَلْتَرَة Prolétarisation فئات اجتماعيّة عدّة (الفلاّحين مثلاً)، من طريق فصْلهم عن أنظمة إنتاج زراعيّة وحِرفيّة قديمة والزّجّ بهم في الاقتصاد الصّناعيّ، وفي نظام علاقات الإنتاج الرّأسماليّة السّائدة فيه؛ حيث تحوّلوا إلى قوّة عمل تُباع في عمليّة الإنتاج وتَربطها بالإنتاج علاقةٌ أجْريّة.

وإذْ رأى ماركس في علاقات الإنتاج إطاراً كابحاً لتَطوُّرِ متسارِع يَسِم القوى المنتجة، افترض أنّ الاصطدام بينهما حاصلٌ لا محالة، وأنّ القوى المنتجة ستَكْسِر - عند عتبةٍ من تطوُّرها - الإطار الذي يُلجِمها (= علاقات الإنتاج) فتفتح الباب أمام نشوء علاقات إنتاجٍ أخرى مطابِقة. ولأنّ ذلك لا يمكن أن يحصل إلاّ في بلدٍ بَلَغَ فيه تطوُّرُها حَدّاً بعيداً ـ ونشأت فيه قاعدةٌ صناعيّةٌ قويّة، رجَّحَ أن تكون بريطانيا - الأقوى صناعيّاً آنذاك - هي البلد المرشّح لأن يشهد ثورةً اجتماعيّة تفتح أفق الاشتراكيّة.

لكنّ الرّياح جرت بما لم تَشْتَهِهِ سفُن ماركس؛ فقد نجحتِ الثّورة في بلدٍ متخلّف صناعيّاً، آنذاك، هو الأضعف في النّظام الرّأسمالي (روسيا). ومنذ ذلك الحين لم يُعْرَف من الاشتراكيّة إلاّ ما طبقّته روسيا السّوفييتيّة من سياسات في المجاليْن الاقتصاديّ والاجتماعيّ. وهي السّياسات التي نسختها عنها الأنظمة الشّيوعيّة في أوروبا الشّرقيّة - الدّائرة في الفلك السّوفييتيّ - والصّين الشّعبيّة (قبل التّراجع عنها في السّتينيّات)، ودول أخرى مثل فيتنام وكوريا الشّماليّة وكوبا، ولكنّها لقيت انتقادات شديدة من مفكّرين اشتراكيّين كُثر رأوا فيها شكلاً آخر من الرّأسماليّة هو رأسماليّة الدّولة التي تقودها برجوازيّة الدّولة ببيروقراطيّة مركزيّة بغيضة.

في كلّ حال، لن يكون تزيُّداً القولُ إنّ الفكرة الاشتراكيّة من مواريثَ أنواريّةٍ لاتّصالها بفكرة المساواة، التي ألحَّتِ الثّورة الفرنسيّة على بعدها السّياسيّ وأَلَحَّ ماركس على بعدها الاجتماعيّ- الاقتصاديّ. وهي، شأنُها في ذلك شأن أفكارٍ أنواريّة كبرى مثل فكرة الحريّة، ألْهَمتْ شعوباً وحركاتٍ اجتماعيّةً وسياسيّةً كثيرة، وقدّمت هذه في سبيل بلوغها تضحيّاتٍ جسيمةً. وكما تولَّدتِ الخيبةُ من رؤية الحريّة مجسَّدَةً في دولةٍ تنكَّرت لها فمالت إلى استعمارٍ يستعبد شعوباً أخرى، أو إلى نازيّةٍ تَنْقَضّ على الدّيمقراطيّة والحريّات، كذلك تولّدتِ الخيبةُ من رؤية الاشتراكيّة مجسّدةً في دولةٍ حكمها نظامٌ (ستالينيّ) قمعيّ وحوَّلها إلى كُلاَّنيّة (توتاليتاريّة)! وبدا، مع السّابقتيْن المخيِّبَتَيْن، كما لو أنّ الأفكار الإنسانيّة الكبرى سرعان ما تَنْحَطّ وتفقد بريقَها ما إن تجدَ لنفسها تعبيراً ماديّاً وسياسيّاً عنها.

ما كان يمكن لفكرةٍ، مثل الفكرة الاشتراكيّة، أن تشهد على ذلك القدر المَهُول من تزوير معناها والحطّ منه، بل والصّيرورة عنواناً/شعاراً لإقامة أشدّ أنواع الأنظمة القمعيّة بؤساً لولا أنّها ركبت صهوةَ السّتالينيّة، وأُخْضِعت لاستخدامٍ إيديولوجيّ رثّ من قِبل أجهزته الحزبيّة والأمنيّة. باسم الاشتراكيّة والتّطبيق الاشتراكيّ "الصّحيح" أخرس خصومه في قيادة الحزب وأخرجهم منه بالموت أو بالنّفي ليبسُط سلطانَه المطلق عليه وعلى السّلطة والدّولة؛ وباسمهما قاد وأجهزته عملية تصفية شاملة داخل "الحزب الشّيوعيّ" أزهقت أرواح مليونيْ منتسب إليه؛ وباسمهما فرض القهر والخوف على مجموع شعوب الاتّحاد السّوفييتيّ وأطلق فيهم أجهزة الأمن؛ وباسمهما عزّز بقايا النّومنكلاتورا في المجتمع والدّولة ومكّنها من الاغتناء والتّعاظم؛ ثمّ باسمهما نقل نفوذه ، بالدّبّابات، إلى عموم بلدان أوروبا الشّرقيّة وفرض عليها نموذجه الاقتصاديّ "الاشتراكيّ" والسّياسيّ الكُلاّنيّ، مُعيداً بذلك إنتاج وتجديد أعرق التّقاليد الاستبداديّة في العهود القيصريّة الرّوسيّة!

لا شيء يشبه النّفق الكُلاَّنيّ السّتالينيّ الذي دخلت فيه "الاشتراكيّة" سوى النّفق الكُلاَّنيّ النّازيّ الذي قادت إليه الفكرة القوميّة الآريّة الشّوفينيّة.