هؤلاء الغربان من دعاة النكد والكآبة، الذين طالبوا بإلغاء الفقرات الغنائية من هذا المهرجان الثقافي الفني بحجة مخالفتها للدين، إنما يروجون لليأس والحزن، ويتعلقون بمآسي الماضي وخلافاته، بدلا من التطلع إلى لآلئ المستقبل، وأزاهيره وفضاءاته الرحبة.

لقد عملوا منذ زمن بعيد على محو حضارة العراق وتأريخه، لغاية في نفس يعقوب، ويعقوب عليه السلام براءٌ منهم، لكن حقيقة هذه الغاية ليست خافية على النابهين والوطنيين العراقيين، فهم يعلمون أبعادها واحتمالاتها الكارثية، وسوف يقاومونها وينتصرون عليها. قوى الشر والتخلف والنكد لن تنتصر على قوى الخير والتقدم والسعادة، لأنها ببساطة تعادي الحياة ولا تمتلك أدوات التطور والرقي.

يكرهون بابل كما يكرهون سومر ونينوى وأوروك ونُفَّر ولَگَش وأور وبغداد. لكن كرههم لبابل، كما هو كرهم للحضارة والسمو والتقدم والتطور، يتسربل دائما بالدين، والدين بعيد عنهم (بُعد سهيل عن الجدي) كما يقول المثل العراقي. فالدين منذ بداياته الأولى لم يكن إلا داعما ومشجعا للبهجة والإبداع، والمسلمون الأوائل في المدينة المنورة استقبلوا النبي الأكرم بالأناشيد وقرع الطبول، نساء ورجالا وأطفالا، مبتهجين بوصوله، منشدين (طلع البدر علينا من ثنيِّات الوداع، وجب الشكر علينا ما دعا لله داع، أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع، جئت شرفت المدينة، مرحبا يا خير داع، قد لبسنا ثوب عز بعد تمزيق الرقاع، ربنا صل على من حل في خير البقاع).  

 أما المتشدقون بالدين في العراق فقد وقفوا ضد الفن والموسيقى وضد التأريخ والحضارة، وحاولوا العبث بالآثار والتماثيل والنصب التذكارية، بل حاولوا تغيير اسم بابل مرات عديدة إلى "مدينة الإمام الحسن" علما أن الإمام الحسن (ع) لا علاقة له بالمدينة، فقد عاش جل حياته ومات في المدينة المنورة، ولم يبقَ في العراق سوى بضع سنوات عاشها في الكوفة عندما كان والده، الإمام علي (ع)، خليفة للمسلمين.  

أقاموا فيها مهرجانات "دينية" علما أن مدينة بابل ليست مدينة دينية ولا وجود لأثر ديني فيها سوى مقام للنبي ذو الكفل (ع)، وهو مقام يهم اليهود أكثر من المسلمين، وقد بقي مهملا بعد أن غادر اليهود العراق تباعا خلال النصف الأخير من القرن الماضي. وتبريرهم لتسمية بابل بمدينة الإمام الحسن هو أن أهل بابل "كرماء وأن كرمهم يذكِّر بكرم الإمام الحسن"! والحقيقة أن الكرم سائد في المجتمعات العربية والشرقية عموما وليس حكرا على أهل بابل.

كما حاولوا أن يمحوا معالم بغداد بحجج تأريخية واهية. فقد أزالوا تمثال مؤسس بغداد، الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، ومرة أخرى بحجج دينية، بأنه "ظلم أهل البيت" في عهده! لكن البغداديين أعادوا التمثال إلى مكانه في حي المنصور. كما أهملوا أهم معلم عصري يرمز إلى بغداد وهو شارع الرشيد، لأن هارون الرشيد هو الآخر "ظلم أهل البيت"! الكثير من الآثار العراقية القديمة أهملت بدواع دينية ظاهرية، لكن هناك أهدافا أخرى كامنة وراءها. فهناك من يريد أن يمحو أي أثر للعراق أو العروبة في العراق، لكنهم يعلمون أن هذه الآثار تشكل جزءا من هوية الشعب العراقي، لذلك استخدموا ذرائع دينية لإزالتها، ويمكنكم تحزروا من هم هؤلاء المعادون للعراق والعرب!

والمضحك المبكي هي أن هؤلاء الغربان وأتباعهم أقاموا "محاكماتٍ غيابيةً" لأشخاص ماتوا قبل ألف عام أو أكثر (وحكموا عليهم بالإعدام) لأنهم "أساءوا لأهل البيت"! لقد جعلوا من الدين ذريعة لمحو آثار العراق وتأريخه وحضارته وثقافته ونمط حياته، بينما الدين، أي دين، لا ينكر الحقائق التأريخية مطلقا، وها هو القرآن الكريم يزخر بالأمثلة والقصص التأريخية (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين- الآية 34 من سورة النور).

لكن سعي أعداء الحضارة والتأريخ والتقدم والسعادة الحثيث، لمحو آثار العراق، ساهم في التصاق الناس بإرث بلدهم التأريخي والحضاري، وعندما أصدر محافظ بابل، حسن منديل، أمرا بإلغاء الفقرات الغنائية والموسيقية من برنامج مهرجان بابل الدولي، هب العراقيون للدفاع عن التنوع الثقافي والحريات العامة والخاصة وحق الناس في الاستمتاع بالفنون والموسيقى، فنفدت بطاقات المشاركة في المهرجان لكثرة المقبلين عليها.

الصور والفيديوات التي وصلتنا من المهرجان تشير إلى تفاعل شعبي منقطع النظير مع الفن والموسيقى والغناء، ومشاركة فاعلة من فنانين عرب وأجانب كان في مقدمتهم هاني شاكر ونوال الزغبي وشمس الكويتية وشذى حسون وحاتم العراقي ورحمة رياض وغيرهم، وهذا الأمر لا شك أنه أصاب أعداء السعادة بالهلع. لن ينفعهم سلاحهم وتبعيتهم للأجنبي الطامع بالعراق، فشعب العراق متمسك بهويته الحضارية الثقافية، ومحب للحياة، وطموحه لحياة أجمل وأفضل لا يقف عند حدود.

كثيرون يندبون حظ العراق، بأنه في وقت تنفتح فيه دول العالم، حتى المحافِظة منها، على الثقافات العالمية والابداع والموسيقى والفنون والعلوم في شتى أنحاء العالم، يحاول "عراقيون" أن يلغوا ما هو متوفر للعراقيين منذ عهود سابقة، من حريات وفنون وثقافة وتنوع ديني ومعرفي وثقافي.

وفي الوقت الذي تتمسك به الدول الأخرى بإرثها وآثارها وتأريخها وحضارتها، بل أن بعضها يختلق له تأريخا أو يعظم أحداثا تأريخيةً هامشية، كي يصنع منها عزا وفخرا لبلاده تعتز به الأجيال، يسعى "عراقيون" لطمس معالم بلدٍ كان مهدا للحضارة العالمية، بلدٍ سُنَّ فيه أولُ قانون، واختُرِعَت فيه أولى العلوم، وأُقيمت فيه أولى الدول وأُنشئت فيه أولى المدن، فيملئونه بالمراقد الوهمية والخرافات والقصص المختلقة والخزعبلات والفتاوى التي لا تمت للدين أو الإنسانية بصلة.

هذه الحملات لطمس حضارة العراق والعودة به إلى غياهب الماضي وحرمان شعبه من الموسيقى والفن والحرية، وقبل ذلك من الرخاء والاستقرار والأمن والخدمات، ليست بريئة أبدا ومطلقا، وإنما هي حملة منظمة تقف وراءها جماعاتٌ تابعة لدولة أخرى منزعجة من وجود دولة العراق الحضارية الراسخة إلى جانبها، وربما لها ثأر معها، فتحاول إضعافه بشتى الطرق (المبتكرة أحيانا)، وتستخدم الدين لتبرير ذلك. وهذه الدولة تفعل ذلك مع دول أخرى مجاورة لها، كما أنبأتنا الأحداث الأخيرة، فهي لا تستطيع أن تتعايش مع العصر الحديث والعالم المعاصر.   

لكن الدين الإسلامي لا يمنع دولا أخرى، كإيران مثلا، من أن تنفرد بين الدول الإسلامية برفض استخدام التقويم الإسلامي الهجري، ولا حتى التقويم العالمي الميلادي، بل تتمسك بتقويمها الفارسي الذي يمتد لألفين وخمسمئة عام! كما تحتفظ بآثارها القديمة وتحافظ عليها، بل حتى قصور الشاه، الذي يسمونه (الطاغوت)، وآثاره باقية ومصانة، لأنها جزء من تأريخ إيران.

الجماعات العراقية المعادية للحضارة والثقافة والفن والموسيقى العراقية والعالمية، أصبحت طابورا خامسا في العراق، تسعى لتخريبه لصالح دولة أخرى، لذلك فإن بقاء هذه الجماعات تمارس عداءها الصارخ للثقافة العراقية وللدولة العصرية المدنية، وتمارس القتل والخطف والإرهاب مع من يختلف معها، لم يعد أمرا يمكن التغاضي عنه أو السكوت عليه. لابد من مواجهتها وإلحاق الهزيمة بها قبل أن تدمر العراق، فهي بالتأكيد ليست أقوى من الشعب العراقي الذي يحظى بدعم المجتمع الدولي وكل القوى الخيرة في العالم.

من يعادي الحرية والسعادة والأمل إنما يعادي الحياة ويحبط آمال وطموحات الشباب التائق للعيش في دولة عصرية، بحرية وكرامة وانسجام ووئام مع العالم المعاصر. من يروج للخرافات والحزن والتقوقع في مآسي الماضي، إنما يعادي قيام دولة معاصرة تليق بالعراق وأهله وإرثه الحضاري. أصبح لزاما على المجتمع العراقي الذي يطمح بأن يعيش كما تعيش باقي شعوب الأرض، أن يجد حلولا للتعامل مع أعداء الحياة والسعادة والإنسانية.

هؤلاء المتخلفون لا يؤمنون بالتعايش مع الآخر، ويحاولون فرض رؤاهم المعادية للطبيعة البشرية على الآخرين بالقوة، علما أن الآخرين لا يهددون عقائدهم ونمط حياتهم، بل أصبحوا يشكلون خطرا وجوديا على الدولة العراقية، ويهددون كرامة شعبها وفرصه في العيش الحر الكريم، كما أنهم بأفعالهم المشينة هذه، يحوِّلون حياة الشباب إلى تعاسة وحزن، ويسيئون إلى إرث العراق الحضاري وآثاره ومعالمه وتأريخه وثقافة شعبه وتقاليده وهويته الوطنية، وكل عراقي لا يشعر بهذا الخطر، عليه أن يراجع نفسه ويتفحص الأحداث والأفكار من حوله كي يرى الأشياء على حقيقتها.

شباب العراق مصممون على المضي في طريق الحرية والتقدم والاستقلال، ولن يكترثوا لدعاة النَكَدِ والجهلِ المتقوقعين في الماضي، مهما كان نوع أو لون الأزياء التي يتسربلون بها، أو أدوات النصب التي يستخدمونها لخداع الآخرين، فالقيم الدينية السمحاء ليست حكرا على فئة معينة، وهي لا تتعارض مع سعي الإنسان إلى الحرية والسعادة والرقي والإبداع والتطور، بل تدعو لها وتشجع عليها، وكما ورد في الأثر (من تساوى يوماه فهو مغبون).