يكاد حزب الله يخوض معركته الأخيرة في لبنان لإنهاء إخضاع البلد لسطوته المتمددة من منبعها في طهران. اشتبه اللبنانيون بوقوف الحزب وراء سلسة اغتيالات أطاحت بشخصيات سياسية "معادية" من رفيق الحريري، عام 2005، إلى لقمان سليم في فبراير الماضي.
ذهبوا مترنحين منقسمين إلى محكمة دولية انتهت إلى إقناع من لم يقتنع بأن الحزب يقف وراء اغتيال رفيق الحريري، وانتهت في حكمها على "عنصر" الحزب الذي ارتكب جريمته "بشكل فردي" إلى إبلاغ اللبنانيين بأن الحزب قدرهم الذي لا قدر ضده. ومع ذلك ما زال على الحزب إسقاط القلاع المعاندة الأخيرة.
في الأشهر الأخيرة ظهرت أعراض نافرة كشفتها حادثتي بلدة شويا في الجنوب وضاحية خلدة بالقرب من بيروت (أغسطس) في الصدام ميدانيا، وبمستويات وعروض مختلفة، ضد هذا "القدر" الذي لا "قضاء" ضده. لكن ذلك الاعتراض الأهلي، الدرزي في شويا والسنّي في خلدة، بقي عفويا انفعاليا لا مراجع سياسية تتبناه وترفده وتحميه. لا بل إن تلك المرجعيات تبرّعت في تقديم الحدث بصفته "احتكاكاً" فرديا لا يمثّل قرارا يستهدف "المقاومة" المصونة.
يعرف الحزب ويدرك منذ سنوات أن الرأي العام اللبناني (والعربي) لم يعد مؤيداً، وأن خطابه حول المقاومة والتحرير ومجابهة الاستكبار لا زبائن له لدى الطوائف اللبنانية، وأنه بالكاد يجهد بالقوة والاقناع واللعب على الغرائز المذهبية للحفاظ على شعبية حائرة داخل الطائفة الشعبية. وفق ذلك الإدراك، ينزعج الحزب ويرتبك لكن دون قلق كبير من صدامات شويا وخلدة طالما أن البيئة السياسية للطوائف تمقت الحوادث "الفردية" وما زالت مذعنة للحزب متعايشة مع أمره الواقع.
نجح حزب الله دون كثير عناء في اختراق كافة الطوائف اللبنانية. عقد تحالفات مع سياسيين مسيحيين وسنّة ودروز من الذين كانوا يدورون في فلك الوصاية السورية ووجدوا في أحضان الحزب ملاذا. أبرم الحزب "تفاهما" مفصليا (2006) مع التيار الوطني الحر بزعامة الجنرال ميشال عون العائد من منفاه الباريسي، فأسقط بذلك كتلة مسيحية بنت مجدها على النضال ضد دمشق وضد حزب الله المزدهر آنذاك تحت وصايتها. نشر الحزب ميليشياه باسم "سرايا المقاومة" داخل الطائفة السنية، وفرض على تيار المستقبل، المفترض أنه "تيار السنّة" المواجه للحزب أمرا واقعا ظهر بشكل جليّ في خضوع سعد الحريري لإرادة عدم انتخاب رئيس للجمهورية إلا حليف الحزب المخلص الوفي، ميشال عون.
شيء ما شوّش على هذا السياق الرتيب والبليد في الأيام الأخيرة. مواجهات الطيونة (14 اكتوبر) تشبه في سرديتها حالة اعتراض ميداني كتلك التي شهدتها شويا وخلدة. والحدث يكشف عن معاندة مسيحية أهلية تشبه تلك المعاندة الدرزية والسنّية الأهلية التي حصلت في شويا وخلدة. وبغض النظر عن الروايات المتبادلة التي لم تحظ بتأكيد تحقيقات الأجهزة الأمنية، فإن حزب الله، الذي لم يؤيد وزير الدفاع نظريته عن وجود كمين وقناصين وقدم وزير العدل دعما لاستقلالية القاضي العدلي، أدرك هذه المرة أن الحادثة لن تتمتع هذه المرة برتبه "الفردية" الهامشية التي يتم بسهولة تنصل البيئة السياسية المسيحية منها.
لا شيء في الطيونة جديد في أدوات الحزب المتّبعة. كانت جماعاته (المتحالفة مع جماعات حركة أمل) تندفع، غالبا بقمصان سود، لقلب الطاولة كلما استدعى أمر شارع ما (بما في ذلك شارع انتفاضة 17 اكتوبر) ذلك. والهدف هو التذكير ببأس الحزب وقوته الضاربة وخطابه المذهبي الذي يمثل هتاف "شيعة شيعة شيعة" عنوانه العريض. وكانت تلك "الصدامات الشعبية" تنتهي حين تؤدي غرضها فينسحب "الشيعة" ويأخذ البلد علما بذلك. صار ذلك السلوك طقسا تقليديا فلكلوريا مقززا، لكنه مَعْلَم من معالم البلد وعلامة من علامات تعفّنه.
أن يعلن أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله أن لحزبه 100 ألف مقاتل، فإن لحيثيات الكشف أمر جلل.
لم يحتج نصر الله في سلسلة تهديداته ضد إسرائيل والولايات المتحدة والإمبريالية والاستكبار، ولا في فتاوى تدخل حزبه لردّ شياطين الإرهاب ودفع "المؤامرة الكونية" عن سوريا، أن ذهب إلى التخويف بـ 100 ألف مقاتل. ثم إذا كان الحزب يمتلك هذا العديد المتسلّح، كما تم إخبارنا، بـ 100 ألف صاروخ ترتعد لها إسرائيل، فلماذا الحاجة إلى الهرع لعرض العضلات للردّ على حادثة دموية دراماتيكية مؤسفة، ظرفية الزمان والمكان.
الأمر جلل ليس للحزب وحده بل لإيران أيضاً. في طهران من يستغرب أن الحزب الذي تُذعن له كل الطبقة السياسية في لبنان، والمسيطر على مداخل البلد ومخارجه، والذي يفرض ويرفض رؤساء البلد وقيادات مؤسساته السياسية والعسكرية والأمنية يعجز عن إزاحة قاض عدلي، وهو أمر يفترض أن يُنجز عبر مكالمة هاتفية. اضطر أمين عام الحزب للخروج بنفسه ليعبرّ شخصيا، وهو قائد المقاومة، عن سخطه من ذلك القاضي العنيد. أرسل مسؤولا أمنيا رفيعا كوفيق صفا لتهديده بـ "القبع" من داخل قصر العدل. ثم أرسل جحافل الغاضبين من هذا القاضي "المسيحي" لاقتحام حيّ مسيحي والهتاف دون كلل "شيعة شيعة شيعة".
يصطدم الحزب بمعاندة مسيحية أهلية يرعاها رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. لا يواري الرجل دعمه للناس محترما وظائفه كزعيم يطرح نفسه وحزبه راعيا لأمورهم مدافعا، بمفهومه ورؤيته وتاريخه، عن الوجود المسيحي في لبنان. يصطدم الحزب بحالة نسي وجودها منذ أن صار "الحرص على السلم الأهلي" لسان حال كل الزعامات التي كانت عصيّة قبل ذلك. ويفقد الحزب أدوات الفطنة والحذق ورشاقة إدارة الأزمة، وهو الذي أجاد مقاربة مآزق كبرى قبل ذلك بمهارة وخبث.
لا يعترف حزب الله بواقع الأمر وينهل أبجدية متقادمة من أمره الواقع. يعلن نصر الله أمر عمليات ضد "المجرم والقاتل والسفاح"، وتروح جوقة حزبه تردد حرفيا وببغائيا تلك النعوت الشاتمة. يحرك الحزب نفوذه لدى "المحاكم" لتأثيم جعجع وسوقه نحو غرف التحقيق واسقاطه بالقانون بعد أن ثبت استعصاء اسقاطه، على الأقل في الوقت الحالي، بالضربة القاضية.
ولئن يعترف جعجع بالرصيد الشعبي الكبير الذي قدمه نصر الله له في الأيام الأخيرة ويعوّل عليه في الانتخابات النيابية المقبلة، فإن الحرب بين حزب الله والقوات اللبنانية، وبين نصر الله وجعجع بالذات، باتت وجودية قد تأخذ أبعادا أمنية خطيرة يحتاجها الحزب وطهران معاً، ذلك أن طهران بالذات لا تحتمل سابقة تمرد في لبنان يُخسّرها بلدا تمكنت من جعله ركنا داخل حدائق نفوذها منذ أن قتل "عنصر" في حزبها اللبناني رفيق الحريري ورعت محكمة دولية الاعتراف بهذا النفوذ.