بل ساهمت في تفاقم المشاكل وتدهور الخدمات والبنى الأساسية للبلد، بينما تقاسمت المناصب والمكاسب والأموال فيما بينها، دون أن تكترث لمعاناة الناس. والأسوأ من كل هذا أنها جعلت البلد تابعا لدولة أخرى تتحكم به عبر مليشيات مسلحة تأتمر بأمرها.

غير أن الوضع لا يبشر بخير، فالانتخابات التي تسمى "مبكرة"، وهي في الحقيقة ليست مبكرة إلا بستة أشهر فحسب، تخوضها الجماعات السياسية السابقة نفسها، التي تمتلك أجنحة مسلحة متهمة بارتكاب جرائم وتجاوزات كثيرة، وهي نفسها المسؤولة عن الفشل والخراب الذي حل في العراق خلال السنوات الثماني عشر الماضية.

وما يزيد الأمور تعقيدا أن هناك قوى مقاطعة للانتخابات، خصوصا القوى التي انتفضت على الوضع الحالي وطالبت بالتغيير وأسقطت الحكومة السابقة. وتسوق القوى المقاطعة سببا مقنعا لمقاطعتها الانتخابات، ألا وهو أن الحكومة البديلة لحكومة عادل عبد المهدي، المتهمة بارتكاب جرائم كبيرة أو التستر عليها، لم تكشف عن قتلة المتظاهرين الذين قارب عددهم 800 شخص، رغم أن هذا هو المطلب الأساسي للمنتفضين.

صحيح أنهم انتفضوا ضد الفساد والتبعية، ومن أجل الإصلاح وتغيير الاوضاع، وكان يمكن أن تستمر تظاهراتهم السلمية كاحتجاجات مطلبية دورية، لولا قرار حكومة عادل عبد المهدي بمواجهتها بالسلاح، وتصفية قادتها جسديا وبطريقة وحشية، الذي أججها ووسع قاعدتها وزاد من حدتها وتعاطف المجتمع العراقي والدولي معها، ودفعها إلى رفع سقف مطالبها، بينما تسبب فشل الحكومة البديلة في تلبية مطالب المحتجين الأساسية في إدخال العراق في أزمة سياسية واقتصادية وإنسانية خطيرة وواسعة النطاق.

نعم لم تلبِ الحكومة الحالية مطلب المتظاهرين الرئيسي، وهو الكشف عن قتلة المتظاهرين وملاحقتهم وتقديمهم للقضاء، أو أنها ربما لم ترغب في ملاحقتهم، لأنها تعلم بأن هناك قوى سياسية متنفذة تقف وراء عمليات القتل والخطف وإطلاق النار على المواطنين الأبرياء، والتي يُعتقَد بأنها حصلت وفق فتوى (سرية) أصدرها مفتٍ أجنبي، وأنها (الحكومة) تسعى لضمان مستقبل أفرادها السياسي والوظيفي، وتحرص على إرضاء هذا الجماعات وخدمتها، لذلك آثرت أن تضحي بمطالب المتظاهرين من أجل مصالح شخصية.

وإضافة إلى إخفاقها في ملاحقة المجرمين والقتلة والسراق والقضاء على الفساد أو الحد منه، فإنها أقدمت على تخفيض العملة العراقية بنسبة تقارب الـ20%، دون أن تأخذ بنظر الاعتبار تأثير ذلك على الفقراء. لقد رفع تخفيض العملة أسعار المواد الضرورية المستوردة بنفس النسبة، أو بأعلى منها في أحيان كثيرة، وساهم في زيادة نسبة الفقر وصعوبة الحياة عند كثيرين. كما إنها لم تنجح في مكافحة جائحة كورونا التي فتكت بالفقراء تحديدا، أما الأغنياء والمتنفذون فقد حصلوا على اللقاح بسهولة وسرعة فائقة، وهذا عمل غير أخلاقي ومدان، فالأولويات يجب أن تكون للضعفاء أولا، كما هي الحال في الدول الأخرى.

لكن مقاطعة المعارضين، خصوصا منتفضي تشرين، للانتخابات سيعزز من فرص فوز من يعارضونهم، وهم أعضاء الجماعات السياسية الحالية المتهمة بالفساد والفشل وارتكاب جرائم القتل والخطف بحقهم، لذلك فإن هذه المقاطعة لن تجدي نفعا ولن تحقق مطالب التشرينيين، وعليهم أن يشتركوا بقوة في الانتخابات، فالاشتراك فيها لن يمنعهم من مواصلة احتجاجاتهم ومعارضة القوى الحالية مستقبلا، لأن التصويت لا يلغي حق المعارضة والمطالبة بالإصلاح والتغيير، فهذا حق دستوري مكفول لهم ولغيرهم.

مقاطعة الانتخابات سوف تنفع الفاسدين وتحميهم لأنهم سوف "يفوزون" إن لم يكن هناك من يصوت ضدهم، وسوف يتمتعون بحصانة برلمانية تحميهم من الملاحقة القانونية وسوف يوصلون أتباعهم إلى المناصب التنفيذية، بينما سيبقى التشرينيون وغالبية الشعب الذي يمثلونه، يملئون ساحات المدن الرئيسية دون أن يكون هناك من يمثلهم في البرلمان أو السلطة التنفيذية، ودون أن يحققوا أهدافهم، والأسوأ من ذلك، فإن الجماعات المتشدقة بالدين سوف تدعي بأنها تمثل الشعب العراقي الذي صوت لها في الانتخابات، خصوصا وأن نسبة المقترعين، حتى وإن كانت متدنية، فإنها لن تؤثر على قانونية فوزهم.

المقاطعون سوف يساهمون، من حيث لا يشعرون، في "فوز" الفاسدين مرة أخرى وإيصالهم إلى البرلمان والسلطة. فهل هذا حقا ما يريدونه؟ بالتأكيد لا، إذن، عليهم أن يحذروا المقاطعة ويشاركوا بقوة في الانتخابات. المشاركة الفاعلة سوف تحدث تغييرا، وإن حصل تزوير، فإنه لن يلغي كل الأصوات، فهناك دائما حدود للتزوير.

أما ممثلو الجماعات المتشدقة بالدين، التي ملأت العراق خرابا وألما وحزنا وفقرا، إذ لا يجد العراقي أي شيء جميل في حياته، وكل أمله أن يُعَوَّض في الآخرة، فلم يجدوا ما يعرضونه على الناخبين العراقيين سوى الخداع والدجل والادعاء بأن هناك قوى "غيبية" منعتهم من تقديم الخدمات للشعب العراقي وتحقيق أي إنجازات خلال الفترة الماضية! والسبب؟ "لأنهم من أتباع الإمام الحسين عليه السلام"! لا يستحي هؤلاء من الدجل والكذب على أتباعهم، فيعزون فشلهم إلى "أنهم من أتباع الإمام الحسين"!

لم يفسر "شيخ المجاهدين" كيف منعهم الآخرون من تقديم الخدمات للمحافظات الجنوبية؟ بل لم يخبرنا من هم هؤلاء الذين وقفوا حجر عثرة في طريق نجاحهم؟ وكيف عرف عطوفته بأن السبب هو لأنه "يتبع الإمام الحسين"؟ ثم متى كان هو من أتباع الإمام الحسين؟ هل عندما حارب بلده لثمانية أعوام عجاف؟ أم عندما قمع الشبان المطالبين بحقوقهم؟ أم عندما عين أتباعه في مؤسسات الدولة دون استحقاق أو كفاءة، أم عندما مكَّن أتباعه وأقاربه من أن يعيدوا الطائرات مع مسافريها من الجو إلى المطارات كي تقل راكبا (عزيزا عليه) كان متأخرا عن موعد إقلاع الطائرة؟

يرى مراقبون أن خيارات الناخب العراقي في هذه الانتخابات أفضل من السابق، رغم وجود الكثير من العقبات والمشاكل، ومنها وجود جماعات مسلحة ترهب الناخبين والمرشحين المستقلين، وهذا حصل كثيرا في السابق ومحتمل الحدوث في هذه الانتخابات. إضافة إلى ذلك هناك الغموض في هوية الكثير من المرشحين الذين يعتقد مراقبون بأن كثيرين منهم يمثلون الجماعات السياسية الحالية رغم ادعائهم بأنهم مستقلون.

ويعتقد خبراء بأن فرص التزوير في هذه الانتخابات أقل من السابق، بسبب الإجراءات الجديدة، ومنها إصدار البطاقة البايومترية التي لا يمكن أن ينتحلها شخص غير صاحبها، لأنها تحمل البصمات الشخصية للناخب، وكذلك لأن المفوضية ليست حزبية، أو على الأقل هذا ما نعتقده الآن، لذلك لا يمكن الحكم على عدم حياديتها قبل توفر الدليل.

التغيير الشامل الذي ينشده الشعب العراقي لن يتحقق في هذه الانتخابات لأسباب كثيرة، منها أن القوى الجديدة غير منظمة وغير موحدة ولا تمتلك المال أو الخبرة أو البرامج الانتخابية المدروسة كي تتمكن أن تقنع الناخبين بالتصويت لها. وفي المقابل فإن القوى القديمة منظمة ومسلحة وتمتلك المال والخبرة ولديها أتباع ملتزمون بالتصويت لها. مع ذلك فإن تغييرا سوف يحصل، ليس لأن القوى الجديدة ستتمكن من الفوز بغالبية المقاعد، ولكن لأن الجميع يدرك أن الشعب العراقي بشكل عام، لم يعد يتقبل وجود الجماعات الفاشلة والفاسدة والتابعة لدولة أخرى.

لقد رأينا الهلع عند قادة وممثلي الجماعات السياسية الحالية، ورأينا تغيرا جذريا في خطاب مرشحيها الذين بدأوا يتبرأون من الفشل والفساد، ولكن لن يصدقهم أحد. فكيف يمكن أن نصدق بأن وزيرا شغل مناصب رفيعة عديدة لم يكن فاسدا، وقد حصلت في عهده كوارث وجرائم واعتداءات وتجاوزات كثيرة؟

وكيف نصدق بأن رئيس وزراء سابق، حكم لسنين عديدة، وفي عهده ارتفعت أسعار النفط إلى مستويات قياسية، لكنه لم يقضِ على الفساد، ولم يحل مشكلة الكهرباء أو السكن أو الأمن؟ بل حصلت في عهده جرائم كثيرة وانهيارات للقوى الأمنية مكنت الجماعات الإرهابية من السيطرة على مساحات شاسعة من العراق! وكيف يمكن أن نصدق أن كتلة سياسية كان أعضاؤها يتولون إدارة وزارات خدمية وأمنية، ولم يقدموا أي خدمة أو يحققوا أي إنجاز بل تحوم حولهم شبهات فساد كثيرة، قد تحولت فجأة وبقدرة قادر إلى كتلة وطنية مخلصة؟

التغيير في النظام السياسي وطريق إدارة الدولة حاصل دون شك، وجُل ما تطمح إليه الجماعات السياسية الحالية، هو أن تتمكن من حماية قادتها من الملاحقة القانونية. لذلك فإن المشاركة في الانتخابات سوف تلحق الهزيمة بالفاسدين وتحدث تغييرا يمكن أن يكون نواة للتغير الجذري المستقبلي.