شعبية حزب "روسيا المتحدة"، الذي يؤيد بوتِن في العادة، منذ بروزه على المشهد السياسي قبل أكثر من عقدين، انحدرت إلى مستوى جديد، إذ تدنت نسبة التأييد للحزب حسب استطلاع أخير إلى 26%، وهي الأدنى منذ 13 عاما. مع ذلك، يتوقع مراقبون بأن الحزب سوف يحصل على أغلب المقاعد في البرلمان الروسي (الدوما) في الانتخابات البرلمانية المقبلة التي ستُجرى في 17-19 من الشهر الجاري.

الرئيس بوتِن أعلن الأسبوع الماضي، أثناء حضوره مؤتمر حزب "روسيا المتحدة" الأخير، الذي يتزعمه حليفه الرئيس السابق، ديمتري مدفيديف، والذي تبادل المواقع التنفيذية العليا مع بوتِن خلال الفترة الماضية، عن مكافآت مالية سخية للجيش بلغت 150 ألف روبل لكل منتسب، وللمتقاعدين بلغت 100 ألف روبل لكل متقاعد، إضافة إلى مكافآت مالية للعائلات التي لديها أطفال.

ويرى خصومه، مثل المعلق السياسي فيودور كراشنينكوف، أن هذه العطاءات تمثل "رُشى يقدمها بوتِن للناخبين قبل الانتخابات". وقال كراشنينكوف في مقال نشرته مؤسسة (دوتشي فيلا) الألمانية على موقعها الألكتروني، إن "تقديم مبالغ نقدية قبل الانتخابات هو دليل على إفلاس بوتِن المعنوي. لا يوجد لدى بوتِن شيء يقدمه للناخبين سوى الرُشى والتهديدات". وكان كراشنينكوف قد غادر روسيا إلى أوروبا كي يكون في مأمن من ضغوط الحكومة وتهديداتها، حسب قوله.

يُذكر أن الحكومة غيَّرت قواعد الانتخابات، حسب التعديل الدستوري لعام 2020، وبدلا من أن تُجرى الانتخابات خلال يوم واحد، كما كان يحصل في السابق، أصبحت الآن تجرى خلال ثلاثة أيام، الأمر الذي يزيد عملية مراقبة صناديق الاقتراع تعقيدا. كذلك فإن الكاميرات التي كانت توضع لمراقبة التصويت في المراكز الانتخابية قد أزيلت، ويبرر أنصار الحكومة ذلك بالقول إن هذا الإجراء قد اُتخذ للحد من الهجمات السبرانية!

وعندما احتج الخصوم بأن هذه الحجة غير مقنعة، لأن الكاميرات كانت مستخدمة سابقا ولم تحصل أي خروق للنظام الانتخابي، ردت إيلا بافيلوفا، رئيسة مفوضية الانتخابات، والتي كانت إلى عهد قريب ناشطة في مجال حقوق الإنسان، قائلة "إن هذا الزمن مختلف كثيرا عن السابق. لم تكن هناك هجمات سبرانية سابقا كما هي الأوضاع الآن"!

كما حظرت الحكومة وكالة غولوس (Golos) المستقلة التي تراقب الانتخابات التي كانت قد كشفت تزويرا في انتخابات عام 2011 وباقي الدورات الانتخابية، واعتبرتها "عميلة للأجنبي"!

الزعيم المعارض الوحيد الذي يتمتع بشعبية واسعة، ألكسي نافالني، هو في الآن السجن بتهم التزوير التي يرى كثيرون أن دوافعها سياسية. وكان نافالني قد تعرض سابقا إلى عملية تسميم، يُعتقد بأنها مدبرة، وأمضى على أثرها عدة أشهر في المستشفى في ألمانيا. كما أن العديد من أتباعه ومناصريه والعاملين في شبكته قد هربوا خوفا من الملاحقة والاعتقال. أما منظمته السياسية ووحدة التحقيقات التي أسسها لمكافحة الفساد، فقد حظرتهما الحكومة بدعوى التطرف.

لكن هذه المضايقات المتعددة التي يتعرض لها نافالني وتياره لم تمنعه من أن يطلق مبادرة "التصويت الذكي" التي تدعو إلى أن يكون هناك مرشح واحد لمختلف قوى المعارضة مقابل مرشح الحكومة، كي لا تتشتت أصوات الناخبين المعارضين، وكي تكون فرص فوز المعارضين أكبر.

ويقول معارضون، مثل الأكاديمي والنقابي، والمرشح عن موسكو، ميخائيل لوبانوف، إن الحكومة تسعى لدفع مرشحين إلى العملية الانتخابية يحملون أفكارا معارضة من أجل تشتيت الأصوات المعارضة كي يفوز مرشحو الحكومة.  

وقد لاقت حملة "التصويت الذكي" تأييدا واسعا بين قوى المعارضة الرئيسية، ودعا ماكسيم رزنيك، عضو المجلس التشريعي لمدينة بطرس بيرغ، وهي العاصمة الشمالية لروسيا، إلى تأييد هذه المبادرة قائلا إنها سوف تقدم بديلا حقيقيا لمرشحي حزب "روسيا المتحدة" المؤيد للرئيس بوتِن.

ووصف رزنيك الحظر المفروض على شبكة نافالني ومؤسسة مكافحة الفساد (أف بي كي) التي يقودها، بأنه "برهان واضح على أن حكومتنا الروسية، هذه الدكتاتورية القائمة على العقاب، تخشى حملة نافالني لمكافحة الفساد" أكثر من أي شيء آخر. وأضاف رزنيك في مقابلة حديثة مع مجلة (أوبن ديموكرسي) البريطانية أن مؤسسة (أف بي كي) تهدد السلطات الروسية، وأن هذا التهديد يتركز بالدرجة الأولى على حملة "التصويت الذكي"، أكثر منه على مواجهة الاحتجاجات العامة.  ودعا رزنيك قوى المعارضة إلى تركيز جهودها لدعم حملة "التصويت الذكي" التي ستكون مؤثرة في رأيه أكثر من تنظيم الاحتجاجات لأنها ستجلب مقاعد برلمانية للمعارضة.

هناك أيضا مرشحون آخرون يتمتعون بكاريزما وقدرة على الفوز، لكنهم مُنِعوا من الترشح بحجة أن لهم "صلات بالتطرف"! أحد هؤلاء هو ديمتري غودكوف، وهو عضو سابق في الدوما. وقد قال غودكوف في حديث لوكالة رويترز إنه اضطر لمغادرة روسيا لأنه تلقى معلومات بأنه إن بقي فسوف يُعتقَل، لذلك أصبح صعبا عليه أن يترشح في الانتخابات.   

وتقول المرشحة عن موسكو، أناستاسيا بريوخانوفا، إنها محظوظة، فقد سمحوا لها بالترشح، وتعزو سبب الموافقة على ترشحها هو خبرتها في جمع التبرعات أولا، وثانيا لأنها غير معروفة في الكرملين، كباقي قادة المعارضة المحظورين. وتضيف "لقد دُفِع كثيرون خارج العملية السياسية كليا".

شعبية الحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية، ازدادت مؤخرا، باعتبار أنه يتلقى الأصوات المعارضة للحكومة، رغم أن الحزب اعتاد على التصويت لصالح الرئيس بوتِن، إلى جانب حزب "روسيا المتحدة"، لكنه ميَّز نفسه أخيرا كحزب مختلف وله برنامجه المتميز.

شعبية الرئيس بوتِن تفوق شعبية حزب "روسيا المتحدة" الذي يؤيده، لكنها تدنت أيضا، إذ لم تستطع حكومته، ولا القوى التي تؤيده، أن تأتي بأفكار جديدة يمكن أن تعبئ الناخبين لصالحه، كما لا توجد قضية عامة يمكن أن ترفع شعبيته قبل الانتخابات، كما فعلت قضية احتلاله جزيرة القرم عام 2014.

يبدو أن القوى المؤيدة لبوتِن قادرة على أن تحقق غالبية في الانتخابات المقبلة، ليس لأن لدى الحكومة إنجازات يمكن أن تقدمها للشعب، بل لكثرة مرشحي المعارضة، ومنهم من دفعته الحكومة للترشح ضد مرشحي المعارضة كي تشتت أصواتهم كما قال المرشح الانتخابي عن موسكو، ميخائيل لوبانوف: "عندما يتراشق المرشحون المعارضون بالوحل، فإنهم يشوهون صورتهم أمام ناخبيهم فيسقطون جميعا".

الرئيس بوتِن مصمم على البقاء في السلطة عبر الانتخابات، وكان سيكون بإمكانه أن يفوز فوزا حقيقيا لو أنه سمح للمعارضة بالعمل دون إعاقة واتهامات، من الواضح أنها سياسية الطابع! المعارضة الروسية لا تشكل خطرا كبيرا عليه حاليا لأنها مشتتة بين شيوعيين معتدلين وشيوعيين متشددين واشتراكيين ولبراليين، ولم يستطع هؤلاء أن يشكلوا جبهة واحدة لمواجهة القوى المؤيدة لبوتِن.

لكن ملاحقة المعارضين وقمعهم وسجنهم يجعله يخسر معنويا وإعلاميا، ويدفع المزيد من الناخبين الروس للتعاطف مع القوى المعارضة، كما يحفز خصومه في العالم الغربي إلى مهاجمته ووصمه بالدكتاتور، خصوصا وأن معارضيه بدأوا يغادرون إلى أوروبا خوفا من الملاحقة، الأمر الذي يؤجج المعارضة ضده في الداخل والخارج، وهذا الأمر قد تكرر في بلدان أخرى سابقا.

تحقيق الإنجازات الحقيقية، وسلوك الطرق الديمقراطية هو الطريق الأنجع لبوتِن للبقاء في السلطة، متمتعا بشرعية حقيقية وجبهة داخلية قوية. محاربة القوى المعارضة والناقدة وإضعافها أو إزالتها من الساحة، طريق وعرة ومحفوفة بالمخاطر، وطالما أطاحت بفاعليها وعززت من قوة خصومهم.