ولكن ما هي الجدوى من دعوة إيران، وهي المسؤول الأول عن عدم الاستقرار في المنطقة، للمشاركة في هذا المؤتمر؟ خصوصا في ظل نظام معادٍ، ويزداد عداءً، بمرور الزمن لكل دول المنطقة، وأولاها في العداء وأكثرها تضررا منه هي العراق؟

هل النظام الإيراني مستعد لتغيير نهجه الآن، بعد تولي الملا إبراهيم رئيسي مقاليد السلطة؟ هل سيتخلى عن دعم الإرهاب في الشرق الأوسط وتشكيل المليشيات المسلحة لزعزعة استقرار المنطقة؟ هل سيتوقف عن تقديم الطائرات المسيرة للجماعات المسلحة كي تستخدمها لمهاجمة المطارات والمعسكرات في العراق والمنشآت النفطية في السعودية ومواصلة الحرب في اليمن؟ هل سيتوقف عن مهاجمة السفن التجارية في الخليج العربي؟

هل سيتخلى النظام الإيراني عن خططه لتأجيج النعرات الطائفية وإثارة الانقسام والفرقة بين سكان دول المنطقة، ودعم التوجهات الانقسامية والانفصالية والعدوانية في المنطقة؟ هل سيتوقف عن دعم حزب العمال الكردستاني عبر وكلائه في العراق، الأمر الذي دفع تركيا لأن تدخل العراق بقواتها العسكرية وتبقى فيه؟

لقد فشلت حتى الآن كل المحاولات الدولية، ومحاولات دول المنطقة، في أن تدفع النظام الإيراني القروسطي لكي يكون طبيعيا وأن يحترم استقلال الدول المجاورة، وألا ينتهك القوانين الدولية، والحل هو أن تتخذ دول المنطقة بالتنسيق مع المجتمع الدولي، موقفا موحدا وواضحا من النظام الإيراني، وتعمل بجد ومثابرة على إيقاف استهتاره بالقانون الدولي وسيادة الدول المستقلة.

لقد دشَّن النظام الإيراني عهده بانتهاك حرمة البعثات الدبلوماسية واحتلال السفارة الأمريكية في طهران عام 1980 واحتجاز كل أعضاء طاقمها لمدة 444 يوما. وبقي ينتهك القوانين الدولية وحرمة البعثات الدبلوماسية دون أن يخشى من عواقبها. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن انتهاك القوانين الدولية والتجاوز على سيادة الدول الأخرى، المجاورة منها والبعيدة، ومنها فرنسا التي أرسل إليها مجرمين بصفة دبلوماسيين، ليغتالوا رئيس وزراء إيران السابق المقيم في فرنسا، شاهبور بختيار.

لا شك أن الدول العربية يهمها أن يكون العراق مستقلا ومستقرا لأن في ذلك مصلحة لها، بالإضافة إلى كونها دولا شقيقة تريد الخير للعراق. أما فرنسا وتركيا فهما بالتأكيد تحبذان أن يكون العراق مزدهرا ومتمكنا ماليا كي تحصلا على عقود تجارية مجزية منه، لكن الأمر مختلف كثيرا بالنسبة لإيران التي أراد لها نظامها أن تزدهر فقط بإضعاف الآخر وزعزعة استقراره.

إيران لا تريد أن يتمكن العراق من توليد حاجته من الكهرباء ومنتجات الطاقة، من أجل أن يبقى معتمدا على استيراد الكهرباء والغاز منها، ولا تريد للعراق أن ينتج غذاءه في أرضه، لأنها تريده أن يستمر في استيراد الغلال والفواكه والمنتجات الحيوانية والغذائية منها، ولا تريده أن يكون قويا عسكريا أو مستقرا أمنيا، لأنه سيتمكن حينئذ من حماية سيادته المنتهكة، والقضاء على المليشيات التي تدعمها إيران، التي تهدد أمنه وتقتل مواطنيه وتسرق أمواله.

ليس في مصلحة النظام الإيراني أن يتقارب العراق مع جيرانه العرب لأنه سيقوى بهم، وهم سيقوون به، وهذا ما يخيفه، على الرغم من أن العرب ليس لديهم أطماع في إيران. وليس في مصلحة النظام الإيراني أن تكون للعراق علاقات وطيدة مع الولايات المتحدة والدول الغربية، لأن ذلك يعزز من قوة العراق واستقراره، وهذا ما لا يريد أن يراه الولي الفقيه، لذلك يوجه دائما وكلاءه في العراق لضرب السفارة الامريكية وضرب المعسكرات والمطارات العراقية كي يجعل من العراق دولة هزيلة غير مستقرة في نظر العالم.

من الواضح أن مؤتمر بغداد قد عقد أساسا لدعم العراق، وكان هذا واضحا في كلمات الزعماء وممثلي الدول العربية المشاركة في المؤتمر. إنه موقف مشرف من الدول العربية الشقيقة، وهو رسالة لإيران بأن العراق مصمم على استعادة قوته واستقلاله وانتمائه العربي، وأنه لن يكون وحيدا، فكل الدول العربية والأوروبية ممثلة بفرنسا تقف معه.

بريطانيا والولايات المتحدة لم تُمَثَلا في المؤتمر، باعتبارهما دولتين احتلتا العراق عام 2003، والأفضل أن تبتعدا عن مثل هذه المؤتمرات، كي لا يفسر موقفهما بأنه استمرار للتدخل في شؤون العراق. لكن الواضح أن هناك موقفا دوليا لدعم العراق ضد التهديدات الإيرانية تحديدا، وتهديدات الجماعات الإرهابية ثانيا، والتي يستطيع العراق أن يهزمها بمفرده لولا التدخلات الإيرانية في شؤونه.

أما ممثل إيران، وزير الخارجية الجديد، حسين عبد اللهيان، الذي وقف مع الملوك والرؤساء والأمراء في الصورة التذكارية، وليس مع الوزراء كما يتطلب البروتوكول المتعارف عليه بين الدول، فقد تدخل في شؤون العراق بصفاقة في كلمته، إذ دعا إلى (خروج القوات الأجنبية من العراق) وكأنه لا يعترف بوجود حكومة في العراق تقرر ما هو في مصلحته وما ليس فيها!

لم يتحدث الوزير الإيراني عن القوات الأجنبية في دول أخرى، ممثلة في المؤتمر، بل حصر حديثه عن العراق، وهذه رسالة للشعب العراقي أولا ودول المنطقة ثانيا، بأن إيران لا تعتزم الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للعراق، إن لم تكن هناك إجراءات حقيقية رادعة.

المشكلة العراقية تكمن في تعدد مراكز القوى، فهناك عشرات الزعماء الذين يعتقدون بأنهم أحق بالقيادة من غيرهم، وهناك عشرات الجماعات السياسية التي لديها أذرع مسلحة، وتحاول فرض رؤاها بالقوة، وتنفذ أجندات معادية للعراق. وعلى الرغم من اشتراكها في الحكومة، فإنها تتنصل من المسؤولية عند الفشل، الذي أصبح حالة معتادة، وتلقيها على قوى أخرى كالولايات المتحدة، كما فعل أحد ممثلي الجماعات المتشدقة بالدين وألقى باللائمة على الولايات المتحدة فيما يتعلق بفشل الحكومة العراقية في انتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية.

ما لم تكن هناك حكومة قوية ومؤسسات متماسكة، فإن العراق سيبقى ضعيفا وستبقى إيران تتدخل في شؤونه وتدعم جماعة ضد أخرى.
العراق سينهض دون شك، والفضل يعود للجيل الجديد الذي أدرك أن القيادات الحالية لم تصل إلى السلطة لأنها كفوءة أو مخلصة أو تسعى لخدمة البلد، وإنما وصلت بدعم خارجي يستهدف قوة العراق ووحدته الوطنية، لذلك انتفضوا ضد التبعية الأجنبية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، وقدموا آلاف الشهداء والمخطوفين والجرحى.

هؤلاء الشباب مصممون على نيل الحرية والاستقلال للعراق، وتأسيس دول عصرية تخدم المواطنين جميعا، ولو كان لدى القيادات الحالية قليل من الحكمة والانتماء الوطني لما ترشح أي منها في الانتخابات المقبلة، مع أنهم جميعا يعترفون بأنهم فشلوا فشلا فاضحا. لكنهم، مع كل هذا الفشل والفساد والتبعية، يصرون على البقاء على الرغم من رفض معظم العراقيين لهم، وخصوصا جيل الشباب.

لا يبدو أن الانتخابات المقبلة سوف تحقق طموح الشباب بالتغيير الجذري، لأنها حُدِّدت على عجل ودون أن تستعد لها القوى الجديدة، ولأنها ستجرى وفق قانون انتخابات جديد مصمم لتكريس من يمتلك المال والسلطة والنفوذ. لكن الأمل مازال معقودا على استمرار مساعي أبناء الجيل الجديد لإقامة دولة عصرية تليق به، وهذا لا شك سوف يحصل، إن عاجلا أو آجلا.

النظام الإيراني لم يتعلم الدروس وسوف يبقى يعيش في أحلام قادته بأن بإمكانهم أن يستولوا على دولة عربية راسخة كالعراق، بمساعدة قوى مسلحة عميلة تابعة لهم أيديولوجيا، كي يسيروها وفق أهوائهم ومخططاتهم. لكن رسالة مؤتمر بغداد واضحة وهي أن العالم العربي والمجتمع الدولي لن يتخليا عن العراق، وسوف يقفان مع مطالب شعبه المشروعة في الحرية والديمقراطية والرخاء، وأن الانتماء العربي للعراق لا يخضع للمساومة، مع كامل الاحترام للمكونات العراقية غير العربية.

إيران لن تطمئن لمثل هذا التجمع الإقليمي الذي يسعى لترسيخ سيادة دول المنطقة ودعم الاستقرار فيها، وسواء حضرت أم لم تحضر، فإنها سوف تواصل مساعيها المعهودة لزعزعة الاستقرار في المنطقة. لذلك، لا جدوى من دعوتها إلى أي مؤتمر، لأنها لن تغير خططها في ظل النظام الحالي الذي أُسِّس وفق أيديولوجية تقوم على التوسع والهيمنة وإلغاء الآخر.