في مقدمة كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر"، يقول المؤرخ ومؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون أن الدعوة الدينية تزيد من قوة الدولة وعصبيتها.
ثم يردف مع ذلك بأن الدعوة الدينية للدولة لا تتم بغير عصبية-قبلية أو غيرها-ويعطي بعضًا من الأمثلة لذلك من التاريخ الإسلامي خاصة تاريخ قبائل البربر (الأمازيغ) التي كان ابن خلدون أحد خبراء شئونها لو استخدمنا لغة عصرنا الحالي.
هذا هو الحال مع طالبان، فالقارئ لتاريخ أفغانستان منذ العصور القديمة يلاحظ أن تلك المنطقة من العالم هي ملتقى للعرقيات والقبليات والثقافات منذ أقدم العصور، وأحيل القارئ في ذلك للكتاب الرائع "أفغانستان" لستيفن تانر كانت أفغانستان تقع في العصور القديمة في مفترق طرق الحضارات الهندية والفارسية والصينية.
ثم في العصور الوسطى عرفت الإسلام وتفاعلت مع التاريخ الإسلامي خاصة في مرحلة العصر العباسي الثاني وظهور الدول المستقلة التابعة اسميًا للعباسيين، وكذلك في مرحلة الغزوات المغولية وما بعدها.
نتيجة لذلك أصبحت التركيبة السكانية لأفغانستان متنوعة بين قبائل ذات أصول آرية هندوروبية (البشتون) والذين يمثلون أكتر من 48 بالمئة من تعداد السكان، وقبائل طورانية (الطاجيك والأوزبك والتركمان) ومغولية الأصل (الهازارا).
وفي العام 1747 أسس أحمد خان عبدالي الملقب بـ"دري دراني"(درة الدرر) المملكة الأفغانية التي استمر حكمها حتى الانقلاب عليها عام 1973.
وجدير بالذكر أن أحمد خان وسلالته كانوا من البشتون الذين يلقبونه بـ"بابا" أي الأب. أي أن أفغانستان قد بقيت نحو 226 سنة متواصلة تحت السيطرة البشتونية.
وعندما احتل الاتحاد السوفيتي السابق أفغانستان اتحدت كلمة الأفغان من مختلف العرقيات على مقاومتهم، ولكن عندما انسحب السوفيت تسابقت ميليشيات العرقيات المختلفة على الوصول لكابل والسيطرة عليها.
وهنا بدأت حرب أهلية مرعبة سواء بين ميليشيات البشتون من ناحية وتحالف الأوزبك والطاجيك والهازارا والتركمان من ناحية أخرى أو بين قبائل العرقيات نفسها، وبدا واضحًا أن الكفة قد ترجح لصالح التحالف الشمالي وأن البشتون سيفقدون سيطرتهم "التاريخية" على أفغانستان!
هنا ظهرت حركة طالبان، وهم طلبة الشريعة من شرقي وجنوبي أفغانستان والذين ينتمي أغلبهم لقبائل البشتون. ولأن القبلية هي كلمة السر فقد كان من الطبيعي أن تنتشر مبادئ تلك الحركة بين الأغلبية البشتونية خاصة وأن الحركة قد أدرجت المعايير الأخلاقية والاجتماعية البشتونية في قوانين حكمها للأفغان. وسرعان ما اجتاحت طالبان كابل وكنست معارضيها بوحشية وأقامت دولتها.
لدينا إذن العنصران اللذان تحدث عنهما ابن خلدون وهما "العصبية القبلية" و"الدعوة الدينية". وهما عمادا دولة طالبان، والمدقق يلاحظ بسهولة أن تلك الدولة هي في الأساس قبلية ولكنها تتخذ من الدعوة الدينية غلافًا دعائيًا تدرك جيدًا أنه يصلح للاستخدام في كل وقت، والدليل أن على بُعد آلاف الكيلومترات من أفغانستان نجد من يؤيدون حكم طالبان ويتعاطفون معهم دون أن يكون لديهم الحد الأدنى من المعرفة عن هؤلاء القوم. وإنما هم يؤيدونهم فقط لأنهم ملتحون يرفعون علمًا عليه الشهادتين ويقولون إنهم يريدون تطبيق الشريعة!
هذا هو النموذج الذي يصفق له كثير من المنتمين لتيار الإسلام السياسي حاليًا باعتباره "الحل الحاسم لإقامة دولة الإسلام". سبحان الله. ألم تكونوا منذ وقت بسيط تهاجمون ما تصفونه بـ"الاعتداء على الشرعية" في موقف الجيش المصري الوطني من نظام الإخوان البائد؟ . ألستم ممن يهاجمون فكرة الانتماء الوطني وتتهمون أصحابه بأنهم "جاهليون"؟ وفي نفس الوقت تؤيدون نظامًا قبليًا يفرض نفسه بالقوة؟
تناقض مفضوح ومشين لكنه غير مستغرب من أهل تيار طالما عارض "الديمقراطية" وعدها "خروجًا على الشريعة" ثم إذا به بعد سقوط نظام حسني مبارك يسارع لتشكيل الأحزاب وخوض الانتخابات حتى إذا ما فشل في إقامة دولة مستقرة وأطاحت به ثورة الشعب في 30 يونيو 2013 راح يذم الديمقراطية وينظر للنموذج الطالباني بحسرة وهو يقول "هكذا تُحسَم الأمور"!
وللحديث بقية
-يتبع-