حتى وإن آمن المقاتل في تلك الحرب أنه إنما يحارب لأجل إلهه فإن قيادته تدرك أنها إنما تحارب على حطام الدنيا!

فلنأخذ مثالًا لذلك حركة الخوارج، أولى الحركات التكفيرية الإرهابية في التاريخ الإسلامي، فإن الشائع عنها أنها قد أسسها رجال أظهروا التدين إلى حد التشدد وقاموا بتكفير كل من خالفهم حتى وإن كان من الصحابة والسابقين إلى الإسلام وعلى رأسهم الصحابيان الجليلان عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب.. ولكن وراء الأكمة ما وراءها.

فما جرى بالفعل هو أن مع توقف حركة الفتوحات-مؤقتًا-بعد تولي الخليفة الثالث عثمان بن عفان السلطة، ودخول المسلمين في مرحلة "جني ثمار الحروب والتوسع"، بدأت الحساسيات القديمة من بعض القبائل والعشائر تجاه قريش في الظهور.

فقريش كانت تنفس عليها مكانتها الكثير من القبائل منذ ما قبل الإسلام، سواء لاحتكارها شرف رعاية البيت وموسم الحج، أو لإنشائها نظام الإيلاف التجاري وإشرافها عليه... وعندما ظهر النبي من قريش لم يكن عداء القبائل الأخرى له أولًا من منطلق "رفض مخالفة دين الأجداد" فحسب وإنما كان من أهم دوافعه الخوف من إضافة شرف جديد وقوة جديدة لقريش تزداد بها علوًا وسطوة.

وحتى بعد انتصار الدعوة الإسلامية وتأسيس الدولة، ظهرت تلك الحساسيات بعد وفاة الرسول مباشرة فيما يعرف بـ"حروب الردة".. فالمطالع لخطاب القبائل سواء تلك التي منعت الزكاة أو التي ظهر فيها مدعون للنبوة-كقول مناصرو مسيلمة "إن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر" أو قول بعض المرتدين لعمرو بن العاص "قد هلك صاحبك وتساوينا يا عمرو"- يدرك أن تلك التمردات الجماعية إنما كان دافعها العداء لقريش والتنافس معها.

وعندما عارض قطاع كبير من الصحابة بعض سياسات الخليفة عثمان بن عفان استغلت كثيرًا من القبائل والعشائر المقيمة في الشام والعراق ومصر ذلك للثورة على الحكم القرشي وعلى احتكار قريش الخلافة بعد أن كانت فيها النبوة.. ولأن معارضة السابقون الأوائل للإسلام وأصحاب الرسول ومؤسسو الدولة ليست بالأمر الهين، فقد كان على المتطلعون لإزاحة قريش عن صدارة الدولة أن يصبغوا دعوتهم بالدينية، ومن هنا تصدرت المشهد المعارض فئة من تلك القبائل تدعى "القراء".. هؤلاء القراء كانوا شباب اشتهروا بالتفقه في الدين وقراءة القرآن وتدارسه.. وقد أكسبهم ذلك جرأة على إطلاق الأحكام الدينية المشرعنة لتحركات المتمردين سواء مداهمتهم المدينة أو محاصرتهم بيت الخليفة بل وحتى اقتحامهم البيت وقتله والاعتداء على زوجته! وعندما بويع علي بن أبي طالب خليفة للمسلمين بايعوه فقط ليكون "صنيعتهم" فلما ظهر فشل تخطيطهم سارعوا بتكفيره وإهدار دمه خاصة مع موافقته على التحكيم مع منافسه معاوية بن أبي سفيان لأن هذا التحكيم كان سيؤدي ببساطة إلى استمرار قريش في مقاعد السلطة سواء من خلال بيتها الهاشمي أو قرينه الأموي.. لهذا انفصل القراء عن جماعة المسلمين ليظهر عبر التاريخ اسم "الخوارج".. ولتكون أشهر آراء الخوارج الفقهية هي تلك التي تتعلق بفكرة "الإمامة" وتشديدها على أن الإمام لا يلزم أن يكون من قريش.. وهي فكرة تبدو للبعض مجرد اجتهاد فقهي سياسي ولكنها نبتت من تربة الكراهية لقريش والتنافس معها وأخذت غلافًا دينيًا براقًا!

ولنترك الخوارج ولننتقل إلى العصر العباسي، عندما ظهرت حركة "القرامطة" الذين كانوا يقدمون أنفسهم أنهم "المؤمنون الحقيقيون".. فإن هؤلاء لم يكونوا مجرد حركة داعية إلى العدالة الاجتماعية بين الفئات المهمشة كالأعراب والفقراء في مواجهة الفساد الإداري والمالي في الدولة آنذاك، ولا كانوا ممن ينقمون على القادة الترك تسلطهم على الدولة وإغراقهم العاصمة في بحور دماء بحروبهم الداخلية، وإنما كانت في حقيقتها حركة "شعوبية" (حركة مناوئة للعروبة) أسستها بعض العناصر الفارسية وسعت لضرب الحكم العربي العباسي بل وضرب العقيدة الإسلامية نفسها (مع أنها كانت تقدم نفسها كحركة إسلامية).. وتمادت في تطرفها إلى حد ارتكابها مذابح في العراق وشمالي الجزيرة العربية ثم توجت أعمالها الإجرامية باقتحام الحرم المكي وسفك دماء الحجاج وانتزاع الحجر الأسود وسرقته! وكل ما سبق ارتكبته وهي تتشح بأثواب الدين والغيرة عليه!

من نفس المنبع النفعي نشأت حركات الإسلام السياسي الحالية.. فما دعوى طالبان إلا غطاء ديني لصراعات قبلية طالما مزقت أفغانستان منذ قرون بين أزبك وبشتون وهازارا وغيرهم؟ وما تنظيم القاعدة إلا غطاء لشعور المقاتلين العرب السابقين في أفغانستان بأنهم لا يستطيعون العودة لحياتهم السابقة وأنهم يريدون أن "يحصدوا" ما يرونه "ثمنًا عادلًا" ل"جهادهم"؟ وما جماعة الإخوان إلا شبكة من المصالح الفردية تريد أن تكسب نفسها شرعية دينية تدعو بها لإقامة دولتها لتخدم تلك المصالح؟

دائمًا هناك تلك "المصلحة".. التي تستتر وراء "قال الله وقال الرسول".. ومن يرى غير ذلك إنما هو يقرأ التاريخ قراءة ساذجة!

وللحديث بقية

-يتبع-