في الأول من مايو عام 2003، أعلن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش "إنهاء المهام القتالية للجيش الأميركي في العراق" وأن وجود الجيش سيكون لحفظ حدود العراق وأمنه وتثبيت دعائم النظام الجديد.
لكن ذلك الإعلان لم يغير من الوضع كثيرا، إذ بقي الجيش الأميركي يرد على الهجمات التي تستهدفه سواء كانت من جماعات عراقية تابعة للنظام السابق، أو جماعات معارضة للاحتلال الأميركي، أو من جماعات إرهابية غير عراقية معادية للولايات المتحدة كالقاعدة وداعش. وربما لم يمر يوم في تلك الفترة دون أن يشترك الجيش الأميركي في عمليات قتالية، خصوصا في السنوات الأولى.
وفي السادس والعشرين من تموز/يوليو 2021، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن "إنهاء المهام القتالية للقوات الأميركية في العراق" بحلول نهاية العام الحالي، على الرغم أن القوات الأميركية التي وصلت العراق عام 2014 كانت مهمتها الأساسية التدريب وتقديم المشورة والمعلومات الاستخبارية للجيش العراقي.
ولكن ماذا تعني عبارة "إنهاء المهام القتالية" تحديدا؟ هل تعني أن القوات الموجودة في العراق غير قادرة على القيام بعمليات عسكرية أو شن هجمات قتالية؟ أم أنها لن تتصدى للهجمات التي تستهدفها، سواء بصواريخ الكاتيوشا أو الطائرات المسيرة، باعتبار أن ليست لها مهام قتالية؟
أي قوة عسكرية هي قوة قتالية بالضرورة، على رغم اختلاف الاختصاصات العسكرية، فبعضها هجومية وأخرى دفاعية وثالثة استخبارية ورابعة استدراجية وخامسة تعرضية وسادسة إشغالية وغيرها من الفنون العسكرية. لذلك فإنها سوف تدافع عن نفسها وتهاجم القوات المعادية إن اضطرت إلى ذلك، ما يعني أن المهام القتالية هي من صلب عملها وإن تخلت عنها فإنها ستكون ضعيفة، الأمر الذي يهدد وجودها ويشجع أعداءها على مهاجمتها.
المعنى المقصود إذن، وهو معروف منذ الأول من مايو/تموز عام 2003، هو أن القوات الأمبركية ليست لها أهداف قتالية محددة، وأنها لن تقاتل جهات أو جماعات معينة، لكنها سترد على من يهاجمها، وهذا بالضبط ما يحصل في كل الدول في زمن السلم، وخارج ظروف الحرب. لا يمكن أن نتصور أن تبقى القوات الأميركية متفرجة حينما تُهاجم بصواريخ الكاتيوشا أو الطائرات المسيرة. كما أن تعزيزات عسكرية جديدة ستصل إليها عند الحاجة.
المليشيات (الولائية) ما كانت لتجد لها مكانا في العراق لولا مجيء القوات الأميركية، التي أزالت العدو الرئيس لها، وهو الدولة العراقية، ومكَّنتها من السيطرة على مقدرات العراق بسهولة، لكنها تنكرت لها، ليس لأنها ناكرة جميل، وإن كانت هذه الصفة ليست بعيدة عن قادتها، ولكن امتثالا لأمر "ولي أمر المسلمين" ودفاعا عن "بيضة الإسلام" التي يجب المحافظة عليها!
تبدو صيغة (الاتفاق) الأميركي العراقي الأخير حول "انتهاء المهام القتالية للقوات الأميركية بحلول نهاية العام"، بأنها تسعى لإرضاء الفصائل التابعة لإيران في العراق، وإلا فإن القوات الأميركية لم تشترك في أي عملية قتالية منذ عودتها إلى العراق بطلب من حكومة المالكي عام 2014، إثر سقوط الموصل بأيدي داعش، باستثناء الغطاء الجوي الذي وفره الطيران الأميركي للعراق أثناء الحرب، وبعض العمليات المحدودة لحماية الجنود الأميركيين في المعسكرات العراقية، أو الرد على الهجمات التي تتعرض لها السفارة الأميركية في بغداد.
القوات العراقية بمختلف مسمياتها، وفي مقدمتها الجيش طبعا، وجهاز مكافحة الإرهاب تحديدا، إلى جانب القوى الأمنية والحشد الشعبي والحشد العشائري والبيشمركة، هي التي اضطلعت بمقاتلة الجماعات الإرهابية على الأرض، بينما اقتصرت المساهمة الأميركية والدولية على التدريب وتقديم المشورة والمعلومات الاستخبارية. والغطاء الجوي
"الاتفاق" الأميركي-العراقي الأخير لم يأتِ بجديد، لكنه يقدم عذرا للفصائل المسلحة بأنها "انتصرت" على أميركا و"اجبرتها على الانسحاب من العراق وتغيير خططها"، لذلك لم يعد هناك حاجة لمهاجمة قوات مهزومة منسحبة، فهذا ليس عملا " مقاوما". لكن هذا العذر تقابله أعذار كثيرة يمكن أن تُستَدعى عند الحاجة، فهذه الجماعات المرتبطة بالولي الفقيه، عبر جنرالات فيلق القدس، يمكن أن تعود إلى مهاجمة المعسكرات العراقية والسفارة الأميركية عندما يوعز لها قادة فيلق القدس بذلك.
وما أسهل أن تغير المليشيات أسماءها بين الفينة والأخرى للادعاء بأنها (فصائل جديدة) منخرطة في "المقاومة"! فقد كثرت أسماء هذه الفصائل وتشعبت لكنها تشترك جميعا بوجود اسم (الله) فيها! وهي لا تختلف كثيرا في هذا الأمر عن (الأحزاب) الدينية التي تغير أسماءها باستمرار، حسب الحاجة ومتطلبات العصر!
أحد الأحزاب المتشدقة بالدين غيَّر اسمه من "الدعوة الإسلامية" إلى "دعاة الإسلام"، وآخر من "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" إلى "المجلس الأعلى الإسلامي" ثم إلى "تيار الحكمة" بعد أن استُهلِك الاسم السابق! فاللغة العربية لا تعدمها الأسماء خصوصا تلك التي تحمل اسم الخالق، أو تشير إلى كتبه ورسالاته وأنبيائه. لقد أصبح اسم الخالق عز وجل يستخدم لتمرير أجندات تتعارض كليا مع تعاليمه وأوامره ونواهيه.
يقدم لنا الإعلان دليلا دامغا على ضعف حكومة الكاظمي، التي تلجأ باستمرار إلى إرضاء الجماعات المسلحة، على حساب المصلحة الوطنية وسمعة العراق وعلاقاته الاستراتيجية. يبدو أن أولويتها هي إرضاء المسلحين الذين يدّعون الانضواء تحت إمرة رئيس الوزراء، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة، لكننا لم نعد متأكدين من يأتمر بأمر من؟ فالمسلحون لا يعترفون برئيس الوزراء ولا بحكومته، وطالما أهانوه واتهموه بالعمالة وأحرقوا صوره وصرحوا بما يناقض سياساته المعلنة، بل هددوا مرارا بـ(قطع أذنيه!
ليس هناك غرابة في هذا التساهل مع المسلحين، فالكاظمي ما كان ليصبح "رئيسا" لو لم يؤيده هؤلاء المسلحون وممثلوهم في البرلمان. فهم الذين أسقطوا المكلَّفيْن الآخريْن، محمد علاوي وعدنان الزرفي، وفضّلاه عليهما، ربما لأنه "يتفهم" دورهم "الوطني"، وربما لأنه يغض الطرف عن جرائمهم، كما أشار إلى ذلك الكاتب نبراس الكاظمي في مقال أخير له في موقع (تاليزمان غيت) أن الحكومة استاءت عندما كشف في تغريدة له في تويتر عن الجهة التي ينتمي إليها قتلة الدكتور هشام الهاشمي والتي قال إنها (كتائب حزب الله).
تبدو الحكومة الجهة الأضعف في موازين القوى العراقية، على الرغم من امتلاكها كل أدوات القوة والنجاح، من سلاح ومؤسسات وجيش وشرطة ومال ومواقف شعبية ودولية مسانِدة، وشرعية قانونية ودولية وأخلاقية، لكن الذي يبدو للعراقيين، والرأي العام الدولي، أنها عاجزة عن استخدام الأدوات التي لديها لأسباب تتعلق بنقص الخبرة السياسية والإدارية وبمستقبل أفرادها، خصوصا رئيس الوزراء. لكن الرجل، قد يكون "لقمان عصره" و(يعمل بالممكن دون أن ينسى الطموح!) حسب الشعار الذي رفعه صدام حسين في السبعينيات.
مشاكل العراق المعقدة لا تحل بطريقة التجريب، التي تُظهِر الدولة وكأنها رهينة لأتباع إيران، الذين أصبحوا رسميا فوق القانون، يقتلون ويخطفون في وضح النهار ثم تبرِّئهم المحاكم (لعدم كفاية الأدلة)! بينما الشعب ينتفض ضد هذه التبعية ويقدم التضحيات من أجل عراق قوي عصري مستقل. إن التعويل على استمرار الدعم الأميركي للعراق بذريعة أن "الأميركيين لن يتخلوا عن العراق" ليس صحيحا، فالولايات المتحدة تورطت في العراق، ويمكنها بسهولة أن تتخلى عنه، إن لم ترَ جدوى في الدعم المقدم له، لذلك فإن المطلوب من القوى الوطنية التمسك بالدعم الأميركي للدولة والديمقراطية في العراق، وتعزيزه وتطويره، واستثمار اتفاقية الإطار الاستراتيجي لبناء العراق وتقوية مؤسساته المدنية.
وفي غياب الدعم الأميركي، ستبقى الجماعات المسلحة تصول وتجول في العراق، ما يعني استمرار معاناة العراقيين وانتشار أعمال القتل والاغتيال والسرقة، واتساع الفوضى وتدهور الاقتصاد ودخول جماعات مسلحة جديدة في الساحة، فالشعب لن يرضخ لإرهاب الجماعات الموالية لإيران، التي تريد أن تجعل من الدولة العراقية خادمة للمشروع التوسعي الإيراني في المنطقة، لذلك فإنه سوف يتسلح ويدافع عن نفسه، وسوف يقف معه أحرار العالم، والنتيجة ستكون لصالحه، فالمسألة أصبحت مسألة وجود وكرامة. لن يقبل العراقيون أن يكونوا تابعين لإيران، فالعراق دولة وحضارة عمرها 7500 عام، ولن يقبل العراقيون بأن يكون بلدهم تابعا لدولة هشة ومنبوذة ومحاصرة وتبحث عن هوية ضائعة.
القوات الأميركية المتبقية في العراق سوف ترد بقوة إن تعرضت إلى هجوم من الجماعات الموالية لإيران، التي ليس في مصلحتها أن تخرج القوات الأميركية من العراق، لأنها حينئذ لن تجد ذريعة لمواصلة إرهابها على الشعب العراقي. "إنهاء المهام القتالية" للقوات الأميركية لا يعني بقاء القوات الأميركية مكتوفة الأيدي عندما تُهاجم، ولا يعني عدم التعرض للطائرات الإيرانية المسيرة التي تستهدف المعسكرات والمطارات العراقية، بحجة وجود "الاحتلال" الأميركي فيها.
وحتى لو سحبت الولايات المتحدة كل جنودها من العراق، فإن الجماعات الإرهابية التابعة لإيران سوف تبقى تهاجم السفارة الأميركية وتعتبر وجودها "احتلالا". غالبية العراقيين لا يعتبرون الوجود الأميركي في العراق احتلالا، بل يعتبرون وجود جماعات مسلحة تأتمر بأمر زعيم دولة أجنبية بحجة (المذهب) انتهاكا لسيادة العراق وحالة شاذة يجب أن تنتهي سريعا مهما كلف ذلك من ثمن.
التساهل مع الجماعات الخارجة على القانون، ومجاملتها باستخدام كلمات غير معبرة عن الحقيقة والواقع، يزيدها تماديا وإرهابا وشراسة، ويعزز ثقتها بالقدرة على إلحاق الهزيمة بالدولة العراقية، كما أنه يشجع إيران على زيادة دعمها لها كي يبقى العراق ضعيفا وقلقا.
الحكومة غير القادرة على حماية شعبها وصيانة سيادة الدولة وحفظ الوحدة الوطنية وتماسك المجتمع ومواجهة التحديات التي تواجهها الدولة، يجب أن تتنحى كي يأتي من لديه القدرة على مواجهة الأخطار المحدقة بالعراق واستثمار التأييد الشعبي والدولي لقيام دولة عصرية متماسكة تخدم سكانها وتكون عامل استقرار وازدهار في المنطقة والعالم.