لم تؤدّ قرارات الرئيس التونسي، يوم 25 يوليو الماضي، إلى إبعاد حركة النهضة عن الحكم فقط، بل أكدت أيضا أن الإسلاميين، وجماعة الإخوان المسلمين على وجه الدقة، بلا مستقبل.
كان مشهد راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة، واقفا على أسوار مبنى البرلمان، يستجدي الدخول إلى المجلس دون استجابة من عناصر الجيش، دالاّ على حجم خسارة الحركة وشيخها وكل الأطراف المراهنة على حكمها لتونس. المفارقة أن حركة النهضة كانت واعية ومدركة بأن قرارات سعيّد أنقذت الحركة من عقوبة شعبية كانت ستكون أكثر شدة من قرارات 25 يوليو خاصة في ظل استهداف الجموع الغاضبة للكثير من مقرات الحركة في الجهات، لكن سعيّد أعاد العملية إلى مربع السياسة وجنّب البلاد احتمالات الفوضى والعنف. بهذا المعنى فإن خسارة النهضة لم تقتصر على تجميد البرلمان وحل الحكومة، بل كانت تمتد إلى انكشافها الشعبي وتحولها- في نظر الشعب- إلى العدو الأول بعد فشلها الذريع في حكم البلاد.
على أن مظاهر فشل جماعة النهضة لم تبدأ يوم 25 يوليو، لحظة استجابة قيس سعيد للاحتجاجات الشعبية وتحويلها إلى مواقف سياسية، بل إن الفشل السياسي، سواء في سنوات الحكم أو في سنوات المعارضة والسرية، كان مظهرا مرافقا لتاريخ الحركة. لم تناضل النهضة يوما من أجل مضامين اقتصادية أو اجتماعية، بل إن الوصول إلى السلطة ومن ثم تطبيق أهدافها البعيدة (تطبيق الشريعة بكل حمولاته السياسية والفكرية) كان غايتها الحقيقية.
لم يكن عصيّا على الفئات البسيطة من الشعب أن تتعرف على مظاهر فشل الحركة الإخوانية التي تقدمت منذ الأشهر الموالية لسقوط نظام بن علي لحكم البلاد. فشلت النهضة في أن تقدم برامج بديلة عن تلك التي كان يعتمدها بن علي، والتي ثار ضدها الشعب في ديسمبر 2010، لأنها أولا لم تكن قادرة على تدبر حلول حقيقية، ولأنها لا تتناقض مع الخيارات الليبرالية المتوحشة المنتهجة سابقا، ولأنها أيضا لم تكن معنية بخدمة الشعب أو بتحسين نوعية حياته.
فشلت حركة النهضة أيضا في أن تتحول إلى حزب سياسي، بالمعنى الحديث للكلمة، بل ظلت تراوح بين الجماعة والحزب، فلا استطاعت أن تبارح مرتبة الجماعة، باعتبار أن أدبياتها العميقة كانت تحول دون ذلك، ولا قدرت أن تزهد صراحة في منافع الحزب ومغانمه. فظلت في منزلة بين المنزلتين؛ تناور بينهما وترتدي الجبة التي تناسب المرحلة: تقدم نفسها لأنصارها على أنها وفية للمرجعية الإسلامية، وتسوق للخارج وللخصوم صورة مدنية حداثية تحتاجها في الإيهام بوطنيتها وتطورها.
فشلت النهضة في أن تؤمن بالديمقراطية في معناها الحقيقي، أي الديمقراطية التي تعني الإيمان بالاختلاف والتنافس من أجل مصلحة الناس، والتطارح في الأفكار والبدائل، وضمان حرية الإعلام واستقلالية القضاء والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. نظرت النهضة للديمقراطية على أنها مجرد مناسبة انتخابية، تجند لها أنصارها وتوظف خلالها المساجد والخيمات الدعوية والجمعيات الخيرية وغيرها، لكي توهم الناس لكونها حركة "تخاف الله"، لذلك لم يكن مستغربا النزول التدريجي في الكتلة التصويتية لحركة النهضة بين انتخابات 23 أكتوبر 2011، وانتخابات العام 2019، مرورا بانتخابات 2014. تراجع مطرد ومنتظم دفع بعض الشخصيات النهضوية لكي تدق ناقوس الخطر حول "شعبية" النهضة في البلاد، وحول عزلتها الحتمية القادمة، لكن تلك الأصوات المحذرة والناقدة لهيمنة الشيخ راشد الغنوشي وزمرته على الحركة، لم تجد آذانا صاغية، لأن النهضويين كانوا يعيشون حالة خطيرة من الإنكار والتعالي على الواقع، وذلك مظهر آخر من مظاهر الفشل، ولعله أيضا عامل محدد من عوامل ارتفاع الهتافات الشعبية ضد النهضة وضد شيخها، واستهداف مقراتها.
فشلت النهضة في أن تحافظ على المناخ السياسي الهادئ الذي كان يميز تونس حتى في زمن الاستبداد، فتتالت العمليات الإرهابية والاغتيالات، والتي كانت من تنفيذ حركات إرهابية قريبة من النهضة وتغذت وانتعشت في سنوات حكمها، ويكفي التذكير بما قاله الغنوشي عن الجماعات الإسلاموية التي كانت تمارس الاستعراضات العسكرية في شوارع تونس وتنصب الخيمات الدعوية، من كونهم "يذكرونه بشبابه"، ما يعني القبول الضمني المضمر بالعربدة المتطرفة وقتها، وكان يحيل أيضا على الصلات الفكرية التي كانت تجمع الطرفين (النهضة وأنصار الشريعة على سبيل المثال).
لا يكفي هذا الحيز لاستعراض كل مظاهر فشل حركة النهضة منذ يوم 1 مارس 2011 (تاريخ حصولها على الترخيص بوصفها حزبا سياسيا) إلى يوم 25 يوليو. ولو أن مظاهر فشل الحركة الإخوانية تعود إلى لحظة تأسيسها باسم الجماعة الإسلامية في العام 1969. وهو ما يتيح لنا القول إن الفشل الراهن لحركة النهضة عائد إلى عوامل عميقة، بعضها ينطلق من الأدبيات التي تنهل منها الحركة الإخوانية نفسها وهي أدبيات لا تعترف بالوطن والدولة والعمل السياسي الحديث، وبعضها الآخر يعود إلى ارتباطاتها الأيديولوجية مع محور عقائدي "أممي" بالمعنى الديني، وبعضها يرجعُ إلى الازدواجية التي تطبع ممارستها السياسية، حيث تقدم خطابا معلنا للتسويق يقوم على ادعاء كونها حزبا مدنيا يؤمن بالديمقراطية والعمل السياسي السلمي، في حين تروج بين عناصرها وأنصارها خطابا مضمرا يقوم على أن الحركة لا تتعجلُ تحقيق أهدافها الإسلامية وأنها تمارس التمكين الإخواني بتؤدة (مفيد التذكير بحوار أجراه عبدالفتاح مورو- الرجل الثاني في النهضة- مع وكالة الأناضول ونشر يوم 11 نوفمبر 2012 وقال "كيف نتحدث عن إقامة الحدود ونحن لم نبن الدولة بعد، فالشرائع هي نتاج بناء قائم والحدود هي المحيط به ولكن البناء لم يتم بعد فكيف تقام الحدود، لا يمكن الحديث عن تطبيق حدود الشريعة، قبل بناء الدولة ثم تختار مؤسسات الدولة الطريقة التي تراها مناسبة للدفاع عن هذا البناء"، ووصف من يطالب بتطبيق الشريعة بأنهم "متعجلون وليس لديهم الصبر).
كان حدث 25 يوليو في تونس حدثا فارقا سواء لعموم التونسيين، الذين تقبلوه بفرح واحتفالات اجتاحت كامل مدن البلاد، أو للإخوان في تونس والعالم الذين استعجلوا تصنيفه "انقلابا"، ولم يستوعبوا بعد مآلاته وموجاته الارتدادية. يمكن تفحص خطورة الحدث في المخيلة الإخوانية، عند متابعة المواقف التركية والقطرية فضلا عن البيانات التي أصدرتها جماعات إسلامية كثيرة، إضافة إلى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومنظمات أخرى تدور في فلك الإخوان. الحدث مهم لأنه وقع في بلد مهم ومفصلي بالنسبة للجماعات الإخوانية التي تعتبر تونس القلعة الإخوانية الأخيرة في العالم العربي (إذا اعتبرنا أن حزب العدالة والتنمية المغربي مقيد بدستور متطور وبنظام ملكي راسخ ورصين، وإذا استثنينا الجماعات الإسلامية في ليبيا التي تعاني وضعا مخصوصا يكتنفه التصارع حتى فيما بينها). أهمية تونس بالنسبة لجماعات الإخوان نابعة من كون حزب حركة النهضة أوحى للجميع أنه "صامد" بما صنعه من تسييج لموقعه عبر تحالفات مريبة وعبر نظام سياسي هجين ومن خلال قانون انتخابي يضمن له الفوز الدائم، ومن خلال إحاطة نفسه بتيارات إسلامية صغيرة تغذيه دائما بما يحتاجه من خزان انتخابي. تسييج قانوني ودستوري وسياسي أحس من خلاله المواطن باستحالة كسره خاصة في ظل مواظبة حركة النهضة على ترديد لازمة "الديمقراطية" و"الشرعية" دون أي التفات للخراب المستفحل ودون أي اهتمام للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية المتردية.
لكن ما حدث يوم 25 يوليو يمكن اختصاره في أن الرئيس سعيّد قرأ جيدا الهتافات الشعبية فحولها إلى مضمون سياسي في شكل قرارات رئاسية هدفت إلى إيقاف النزيف. وكانت قراءة قيس سعيد للاحتجاج الشعبي مرفوقة بقراءة أخرى رصينة وغير شكلانية للدستور جعلته يقدم على قراره بثقة ومسؤولية. هذه الاستجابة الرئاسية للغضب الشعبي سحبت من حركة النهضة كل إمكانية لاستدعاء تراث المظلومية وثقافة الضحية، لأنها كانت في مواجهة شعب في المقام الأول.
يسمح لنا هذا بالقول إن حدث 25 يوليو في تونس لن تقتصر مآلاته على حركة النهضة، بل ستتوسع نحو كل قطر عربي يتحرك فيه الإخوان الذين يقعون اليوم أمام امتحان مرير: إما الإيمان بالوطن والدولة مشتركا أساسيا بين المواطنين (وهو ما يتناقض مع ثقافة الإخوان نفسها) أو تحمل دوس الجماهير قبل الأنظمة، لأن الدرس التونسي كان بليغا ومفاده أن الشعب يركل كل من يدير ظهره لانتظاراته. تجربة السنوات التونسية الماضية أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن الإخوان لا يصلحون للحكم، وأنهم أيضا جماعة بلا مستقبل، وحتى أسطورة "نجاح" حزب العدالة والتنمية في تركيا لم تعد نافعة، اولا لان النجاح عائد إلى رسوخ الدولة التركية والقوانين الكمالية، وثانيا لأن الأتراك أنفسهم بدأوا يتلمسون ملامح خرابهم الإخواني.