البلدان العربية الوحيدة التي تطورت اقتصاديا هي البلدان المستقرة سياسيا واجتماعيا، وبلدان الخليج العربي خير مثال على ذلك. قد يقول قائل ولكن دول الخليج تتمتع بثروات طبيعية كالنفط الذي مكنها من هذا التطور والاستقرار، والجواب هو أن النفط متوفر بغزارة في العراق وليبيا والجزائر أيضا، لكنها بقيت بلدانا فقيرة وغير مستقرة وتعاني من الإرهاب والتراجع، على الرغم من توفر الإمكانيات البشرية والطبيعية فيها.
بينما المغرب، مثلا، هو بلد قليل الموارد الطبيعية مقارنة بعدد سكانه، لكنه مستقر سياسيا واجتماعيا وناجح اقتصاديا، والسبب هو الإدارة الكفوءة للنظام السياسي الذي لبى طموحات معظم أفراد الشعب في التطور والحكم الرشيد. نجاح الحكومات المغربية المتعاقبة في تشييد بنى أساسية كبيرة جعل المغرب وجهة للاستثمارات والسياحة الغربية، ما عزز من اقتصاده ورفع دخل الفرد المغربي نسبيا، ومكنه من الإنفاق على البضائع المستوردة.
الشيء نفسه ينطبق على مصر، فهي رغم الفقر الذي تعانيه شريحة واسعة من سكانها، لكنها دولة مستقرة وقد تمكنت من مقارعة الإرهاب والتطرف على مر السنين بسبب الإدارة الكفوءة للاقتصاد وشؤون الحكم. لقد أبدى الرئيس الراحل حسني مبارك شعورا عاليا بالمسؤولية عندما قدم استقالته بعد الاحتجاجات الشعبية على حكمه، ولم يستخدم القمع ضد المحتجين كما فعلت حكومة عادل عبد المهدي في العراق عامي 2019 و2020. نجاح الرئيس عبد الفتاح السيسي في الإدارة الاقتصادية والسياسية، رغم الصعوبات التي يواجهها في بعض الملفات، مثل ملف المياه بسبب السدود التي أقامتها أثيوبيا على نهر النيل، قد مكّنه من تعزيز الاستقرار في البلد.
الموارد الطبيعية المتوفرة لبلد ما توفر عونا كبيرا لحكومة ذلك البلد وسكانه، وهذه حقيقة الاقتصادية، لكن ذلك مشروط بتوفر الإدارة الاقتصادية والسياسية الكفوءة، فإن غابت مثل هذه الإدارة، فإن نعمة الموارد الطبيعية تتحول إلى نقمة، كما حصل في العراق وليبيا على وجه التحديد، إذ أساءت الأنظمة السياسية استخدام الثروة وبددت معظمها على التسلح والمشاريع غير المجدية.
هناك علاقة مؤكدة بين الإرهاب والفقر والجهل والفشل السياسي التي تتسبب جميعها في غياب الامل في التقدم والتطور لدى الشعوب. نعم، قد لا يكون الإرهابيون أنفسهم جهلة أو فقراء، وهناك أدلة كثيرة على ذلك، فإرهابيو الحادي عشر من سبتمبر لم يكونوا فقراء ولا جهلة، لكن دوافعهم مستمدة من التأييد الذي يحصل عليه المتطرفون بين الشعوب التي ينتشر فيها الجهل والفقر. كما أن مئات المتطرفين الذين التحقوا بداعش من أوروبا لم يكونوا فقراء، لكنهم يعلمون بأن هناك من يؤيدهم في بلدانهم الأصلية، لذلك تطوعوا للانخراط في صفوف داعش، سعيا وراء (البطولة) التي سيحققونها في محاربة (أعداء الأمة).
الرئيس الأمريكي الثالث والأربعون، جورج دبليو بوش، قال في تصريح ذي علاقة، نشرته الواشنطن بوصت بتأريخ 15 سبتمبر 2005 إنه "لن يكون هناك أمان وحياة هادئة حينما نتجاهل الاضطهاد والفقر اللذين يعانيهما الآخرون. فإما أن ينتشر الأمل أو ينتشر العنف، وعلينا أن نأخذ جانب الأمل"!
نعم، نشر الأمل بين الشعوب هو الذي يقود إلى السلم والوئام ويشجع على التطور ويساعد على التخلص من الفقر. لكن الشعوب لن تؤمن بالأمل في المستقبل إن لم ترَ مصاديق على أرض الواقع، وهنا يأتي دور الإدارة الكفوءة للاقتصاد وشؤون الحكم، فإن رأت الشعوب نجاحات اقتصادية واضحة، وسعيا حثيثا ومخلصا من قبل حكوماتها نحو تقديم الأفضل لها بعدالة وصدق، فإنها ستؤمن بوجود أمل لها في التقدم والرخاء.
وعندما نتحدث عن النجاح في العالم العربي، فإن دولة الأمارات العربية المتحدة تأتي في المقدمة، فنجاحها الاقتصادي والعمراني والعلمي والسياسي لا ينكره إلا مكابر، وهو واضح لكل ذي عين. وهذا النجاح لم يأتِ دون عمل دؤوب وتخطيط متقن وخطط بعيدة الأمد جعلت من اقتصاد دولة الأمارات أن يكون من أقوى الاقتصادات في المنطقة. ولو قارنا حجم الناتج المحلي الإجمالي للأمارات في عام 2019، الذي تجاوز 420 مليار دولار، مع دولة عربية أخرى، أكبر منها حجما وأكثر ثروة، ألا وهي العراق، لرأينا أن الناتج المحلي الإجمالي العراقي لعام 2019، البالغ 230 مليار دولار، هو أكثر قليلا من نصف نظيره الأماراتي.
النجاح الاقتصادي والكفاءة الحكومية اللذان تحققهما الدول داخليا، يكسبانها ثقة ونفوذا دوليا أيضا، ويمكنانها من تحقيق المزيد من المكاسب لشعوبها، وقد تجلى ذلك في تصريحات مستشار النمسا، سباستيان كورتس، أثناء لقائه الأخير بولي عهد أبو ظبي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الذي جرى هذا الأسبوع، إذ أبدى المستشار النمساوي إعجابه بمسيرة التنمية التي تشهدها دولة الأمارات وتقديره لها، قائلا إن الأمارات "أهم شركائنا في المنطقة العربية، وإن العلاقة مع الأمارات ارتقت إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية".
والشراكة الاستراتيجية ليست مصطلحا يقال للمجاملة، بل هو درجة متطورة من العلاقات الدولية، خصوصا وأن العالم اليوم يعاني من الإرهاب وتزايد خطاب الكراهية الموجه ضد فئات مختلفة عرقيا ودينيا. فالإرهاب الذي يرتكبه متطرفون في بعض بلداننا باسم الدين، يواجهه في البلدان الغربية تزايد في خطاب الكراهية الموجه نحو المسلمين والمختلفين عرقيا وثقافيا، والذي كان من الملفات الخمسة التي ناقشها ولي عهد أبو ظبي مع المسؤولين النمساويين، الذين أكدوا على ضرورة التعايش السلمي بين الشعوب والعمل المشترك بين الدول لمحاربة الإرهاب والتصدي للأفكار الإرهابية التي تروج لها الجماعات المتشددة والمليشيات المسلحة في العالم.
كما يدفع النجاح الاقتصادي، الذي يقود في العادة إلى رفع المستوى المعاشي للمواطنين، الدول الصناعية المؤثرة في العالم إلى التعاون مع الدول الناجحة في مجالات عديدة، وإلى مديات بعيدة، فالعلاقات الدولية تجري باتجاهين دائما متساويين تقريبا، والناجح اقتصاديا يمكنه أن يحقق مصالح بلده وشعبه في الدول الأخرى، لأنه قادر على التأثير على سياساتها وقرارات قادتها المتعلقة ببلده ومنطقته، لأن شعبه يمتلك الثروة والقدرة الشرائية التي تبحث عنها الدول الأخرى لتصريف صادراتها.
لن تستطيع دولنا العربية أن تكافح الإرهاب والتطرف وتتغلب عليهما أو تحارب الفقر والجهل وتقضي عليهما، إن لم تتمكن من أن تنجح اقتصاديا وإداريا، لكن النجاح الاقتصادي لا يأتي إلا عبر تولي الأكفاء المخلصين مقاليد الأمور، فهذا هو ديدن البلدان الناجحة. هناك حاجة ماسة وعاجلة إلى إدراك هذه المسألة، خصوصا في الدول الفاشلة سياسيا واقتصاديا، فلا أمل لشعوبها في الاستقرار والرخاء والتقدم إن لم يكن هناك سعي جاد ودؤوب من قبل المسؤولين فيها لتحقيق نقلة نوعية في حياة الشعوب وخلق أمل لها بمستقبل أفضل.