وبعد كلمات الترحيب السريعة انتحى الداعية الشاب بالنجار العجوز جانبا وفاتحه في السبب الذي من أجله زاره في ورشته البسيطة.

وهو أنه يريد منه أن يتولى منصب نائب الجماعة وأن يخلفه في رئاسة فرعها الأهم بمدينة الإسماعيلية.

أربك الطلب المفاجئ الرجل البسيط الذي حاول الاعتذار، متعللا بأن هناك في الجماعة من أهم أكثر منه علما وأكثر قدرة على الاضطلاع بتلك المهمة، وبأنه رجل بسيط لا يصلح لتحمل مسؤولية الجماعة.

لم يصمد النجار العجوز طويلا أمام إلحاح الداعية الشاب، فسرعان ما قبل بالأمر باعتباره تكليفا يصدر من "الشيخ المرشد" وإن استفسر خَجِلا وماذا عن الجمعية العمومية وهل ستقبل بتوليه هذا المنصب؟

فطمأنه الداعية الشاب بأن أعضاء الجمعية العمومية سيقبلون بمن سيرشحه ويزكيه وأنهم جميعا ملتزمون بالبيعة التي في أعناقهم.

وكان ما أراد الداعية الشاب ووافق أعضاء الجمعية العمومية ممن حضروا الاجتماع الذي دعاهم إليه على عجل وبدون توضيح أسباب الدعوة وأصبح الجداوي نائبا للمرشد.

اختيار مدروس

هذا المشهد منقول بتصرف من مذكرات مؤسس جماعة الإخوان، حسن البنا " مذكرات الدعوة والداعية " وكتابات مؤرخي الجماعة، التي لم تنكر ظهور معارضة لهذا القرار من قطاع داخل الجماعة، وإن أرجعوا أسباب المعارضة لـ"حقد في نفوس البعض ورغبة مذمومة في تولي المناصب القيادية".

غير أن المعارضين للقرار اعتبروا أن اختيار البنا للشيخ الجداوي كان بسبب أنه رجل يسهل السيطرة عليه وتوجيهه لتنفيذ ما يقرره البنا شخصيا؛ لأنه إن اختار شخصا آخر من ذوي الحيثية ممن لهم نصيب من علم أو حظ من زعامة فقد يفتح عليه أبواب المراجعة والحساب عما سبق وعما هو آت.

وقد ترك هذا الخلاف جرحا غائرا في نفوس المعارضين وتسبب في ظهور بوادر الخلافات في صفوف الجماعة والتي ستتكرر لاحقا مع عدد من القيادات التي أطاح بها البنا وعلى رأسهم رفيقه وداعمه الأول في تأسيس الجماعة أحمد السكري وهذا أيضا ما سيتكرر كثيرا بعد رحيل البنا في تعامل التنظيم مع مخالفيه ومعارضي سياسات المرشد أيا كان المرشد.

منهج وأسلوب عمل

والراصد لطريقة عمل البنا في تأسيس الجماعة يتفق مع ما طرحه معارضو اختيار الجداوي، ومراجعة أسماء مؤسسي الجماعة تؤكد ذلك فهم كما يقول البنا في مذكراته: في مارس عام 1928 – على ما أذكر – زارني في المنزل أولئك الإخوة الستة حافظ عبد الحميد "نجار بالحي الإفرنجي"، أحمد الحصري "حلاق"، فؤاد إبراهيم "مكوجي"، عبد الرحمن حسب الله "سائق"، إسماعيل عز "جنايني"، زكي المغربي "عجلاتي".

ونحن هنا بالتأكيد لا ننتقص من قدر هؤلاء، ولا نعيب عليهم اشتغالهم بمهن بسيطة، لكن اللافت أن البنا قبل هذا الاجتماع الذي شهد كما يقرر في مذكراته كتابة شهادة ميلاد الجماعة بشكل عفوي كان يصفهم بأنهم لا يعلمون الشيء الكثير عن تعاليم دينهم، وأنهم كانوا يتبعونه في الدروس التي كان يلقيها في المقاهي، وهم وفق هذا الوصف مؤهلون أكثر من غيرهم لاتباعه وتنفيذ أوامره؛ لأنه سيكون في نظرهم العالم الجليل والمرشد الروحي، ومن ثم فهم في هذا الأمر تماما كالشيخ الجداوي الذي اختاره ليكون نائب المرشد جاهزون لتنفيذ الأوامر والطاعة العمياء لقراراته.

كان البنا حريصا أشد الحرص على التميز، وهذا لن يتحقق له بالتأكيد بين دارسي العلوم الشرعية من خريجي الأزهر المعممين، وهو الأفندي المطربش خريج دار العلوم، وهذا لن يتحقق أيضا إن مارس الدعوة داخل أحد المساجد لذا فاختيار المقاهي بالنسبة له أفضل لممارسة الدعوة.

وهذا لن يتحقق دون شك إن كان جمهور مريديه ونواة تأسيس جماعته من المتعلمين لذا كان الستة المؤسسون على هذه الشاكلة.

على دربه سار أتباعه

فيما عرف بجمعة الحساب في أكتوبر 2012 نظم معارضو حكم الإخوان مظاهرة في قلب ميدان التحرير، لكن سرعان ما هاجمت عناصر الإخوان المتظاهرين وأوسعوهم ضربا وتم تحطيم منصة المظاهرة.

كان جلّ المشاركين في فض المظاهرة من أولئك الذي يشبهون المؤسسين الستة للجماعة، وتكرر المشهد في اعتداء عناصر الإخوان على المعتصمين أمام قصر الاتحادية في واقعة "جبنة نستو يا معفنين"، وكان جل هؤلاء أيضا من أولئك الذين ظنوا أنهم بمهاجمتهم للمتظاهرين والمعتصمين إنما يدافعون عن الإسلام أو هكذا قيل لهم.

والراصد لتحركات الإخوان في أعقاب الإطاحة بهم من الحكم، يكتشف أن كثيرا ممن تم تجنيدهم لتنفيذ العمليات الإرهابية أو المشاركة في التخطيط لها أو الدفاع عنها والترويج لمشروعيتها من أولئك البسطاء، أو ممن كانوا بعيدين عن الدين وظنوا أنهم بما يفعلون إنما يكفرون عن سيئاتهم.

ويتقربون إلى الله بالدفاع عن تلك الجماعة المنسوبة كذبا للإسلام والإسلام منها ومن إرهابها براء.

إن ما وضعه البنا لحظة التأسيس وما تبعها سار عليه أتباعه، فوقود المعارك وضحاياها الأساسيون من هؤلاء الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.