أسست المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تجاه لبنان قبل حوالي عام لمقاربة ترمي إلى فصل الحلّ اللبناني عن مسارّ الملفات الإقليمية المعقّدة في المنطقة. استند منطق باريس على جواز علاج "حالة" لبنان بمعزل عن مستقبل إيران وحزبها في لبنان، وعلى نحو لا يرتبط بمآلات المفاوضات الأميركية الإيرانية حول البرنامج النووي.
وفق هذه الفلسفة، التي لم يثقّ بها كثير من اللبنانيين، استندت فرنسا على المتوفّر والمتاح في لبنان، وعوّلت في مبادرتها على توافق / تواطؤ الطبقة السياسية، بما في ذلك حزب الله، من أجل نقل الاداء الحكومي إلى مستوى يلاقي المعايير السياسية للدول المانحة والمعايير التقنية للمؤسسات المالية الدولية.
لم تكن الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب داعمة لـ "الستايل" الفرنسي، وبدا من خلال الاكتفاء بعدم معارضته، أن واشنطن لا تؤمن كثيرا بالطموحات الفرنسية ولا بحسابات ماكرون الشخصية في هذا الملف. والأرجح أن عدم جدية واشنطن آنذاك في ملاقاة باريس وفرضها عقوبات على أطراف داخل الطبقة السياسية اللبنانية المعوّل عليها، قاد إلى استخفاف تلك الطبقة بهمّة باريس التي تنقصها الهيبة والصدقية والرعاية الدولية.
غير أن لقاء وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بنظيره الفرنسي جان إيف لودريان في باريس أعاد الاعتبار لمنطق باريس، وأعاد تعويم المبادرة الفرنسية، من حيث أن لبنان حالة طارئة وجب تحييد مصيره عن مصير ما يخطط للمنطقة، لا سيما لسوريا وإيران. ثم إن لقاء الوزيرين بعد ذلك بنظيرهم السعودي فيصل بن فرحان في إيطاليا نقل إلى الرياض طبيعة الاستراتيجية الأميركية الفرنسية، المشتركة هذه المرة، من زاوية ضرورة أن تحظى بالرافد العربي، السعودي خصوصاً، للتعامل الطارئ مع الانهيار اللبناني.
تقوم تلك الاستراتيجية المستحدثة على غرابتها على سلوك مسالك "تقنية" تجنب الأطراف الثلاث التورط في أي تقاطع أو تماسّ مع القضايا الإقليمية الأخرى، وبخاصة ملف إيران. بمعنى آخر لا تريد واشنطن وباريس أن يرتهن ملف لبنان لمحادثات فيينا ولا تريد لهذا الملف أن يكون ورقة يتم التلاعب بها على طاولة الملفات هناك، خصوصا وسط أجواء فشل محتمل لهذه المفاوضات. وتدرك العاصمتان في تواصلهما مع العاصمة السعودية حساسية الرياض حيال هذا الملف، سواء في الموقف من تشكيل الحكومة والموقف الحاسم والحازم حيال حزب الله، أو في توجّس الرياض من أي تحوّل في موقفها اللبناني في موسم محادثاتها الحالية مع طهران.
على هذا يتأكد يوما بعد يوم أن لبنان عاد ليكون بلداً يحظى باهتمام دولي حقيقي تعبّر عنه واشنطن وباريس، ويؤكده رواج الحديث عن قرب فرض عقوبات منسّقة بين أميركا والاتحاد الأوروبي، وتكشفه المقاربة المحسوبة والحذرة التي تنتهجها موسكو حيال ملف باتت عناوينه غربية بامتياز، وتلفت إليه خطط تصل إلى حدّ تدخل دولي باشراف الأمم المتحدة وفق ما اقترح تقرير لجنة الدفاع والقوات المسلّحة في البرلمان الفرنسي، ويلفت إليه الاهتمام الفاتيكاني الذي بات مهجوساً بالوجود المسيحي في هذا البلد (جدير تأمل احتفالات بكركي بمئوية العلاقة بين السعودية والبطريركية المارونية).
وفق تلك الورشة الدولية التي ستظهر علاماتها بشكل أوضح، يندرج توجّه السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا ونظيرتها الفرنسية آن غريو إلى السعودية وفق تدبير وتنسيق كاملين مع السلطات هناك، بما يكشف عجالة تتطلب تحركاً غير تقليدي لا يتقيّد ببلادة بعد الأعراف والمتعارف عليه. وأتت المناسبة بعد ساعات على "حفلة" تقريع وتأنيب توجهت السفيرتان بها (لاسيما الفرنسية) إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان الدياب ومن خلاله إلى الطبقة السياسية المسؤولة عن الكارثة في لبنان.
والواضح أن حزب الله المدرك للتحوّلات الدولية المتدرجة التي تفصل مصير لبنان عن مصير إيران، أظهر توتراً في التوعّد ضد أي تغير في مهمات القوات الدولية في لبنان (لا سيما أن الفرنسيين باتوا يقتربون من مطالب الأميركيين في هذا الصدد)، كما أبدى امتعاضا من خطاب السفيرتين في بيروت وسعيهما في الرياض. الأمر عبّرت عنه صحيفة الأخبار المقربة من الحزب، حين وصفت الأميركية بـ "البلهاء" والفرنسية بـ "العنصرية" ودعت إلى "نبذهما كل ساعة وكل دقيقة (…) وإبلاغهما بأن عليهما توقّع المتاعب والملاحقة بقصد طردهما متى تيسّر ذلك، والتعامل معهما مثل أي مندوب لقوة احتلال وجب طرده… ولو بالقوة! ".
ولئن أوضحت بيانات السفارتين في بيروت، كما بيان الرياض لاحقاً، طبيعة زيارة السفيرتين إلى السعودية، وحصرها بالجوانب الإنسانية الإغاثية ودعم الجيش ومؤسسات الأمن، إلا أن الجهد الدولي العربي، حتى على هذا المستوى، سيواجه بحملة مضادة سيشنّها حزب الله ضد"التدخل" و "الانتداب الجديد".. إلخ، ذلك أن لبنان ملكية إيرانية يتحدد مصيره مع طهران، ومع طهران حصراً.
أمر لبنان ومصيره يناقش بين واشنطن وباريس والرياض. إيران الغائب الأكبر، ما يستدعي شنّ أبواق الحزب حملة ضد السفير السعودي وشتم السفيرتين، الفرنسية والأميركية، ووسمهما بالبله والعنصرية.