عندما اندلعت أحداث المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، التفت العالم بأسره إلى المظلمة الفلسطينية. انتصر الفلسطينيون لأخوتهم في الحي العربي من المستوطنين والقوات الإسرائيلية، وانتبه العرب إلى أن الفلسطينيين تجاوزوا تشتتهم السياسي وانقسامهم نحو مساندة شعبية وسلمية لقضية المسجد الأقصى ولسكان حي الشيخ جراح. إلى حدود تلك اللحظة كانت القضية الفلسطينية تستجلب تعاطفا عالميا غير مسبوق، وتفهمت دول غربية كثيرة موقف سكان الحي على الرغم من اللغط حول قانونية وضعهم كسكان في عقارات يملكها يهود، وباتت على استعداد للضغط السياسي على إسرائيل للتراجع عن تطويق الحي العربي. منظمة الأمم المتحدة دعت إسرائيل إلى الوقف الفوري لجميع عمليات إجلاء الفلسطينيين من القدس الشرقية، وقالت إن هذه الإجراءات قد ترقى إلى جريمة حرب. وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة بيتسيلم الإسرائيلية قد وصفتا قبل ذلك، سياسة إسرائيل حيال العرب على أراضيها والفلسطينيين في الأراضي المحتلة بأنها ضرب من "الفصل العنصري".

في عمق تلك الأحداث حققت أحداث الشيخ جراح أهدافا كثيرة في وقت وجيز. ضمنت الأحداث تضامنا شعبيا فلسطينيا غير مسبوق، وهو تضامن تجاوز ترهل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وقطع مع أسلمة حركة حماس لقضية الفلسطينيين. كان العنف الإسرائيلي في القدس يذكر الجميع بهويتهم الفلسطينية التي أصابها الانقسام بخدوش كثيرة. واكتشف الفلسطينيون أيضا أن بإمكانهم بالنضال السلمي تحقيق ما عجزوا عنه بصواريخ حماس البدائية. كان ذلك يمثل رسائل سياسية كثيفة للشعب الفلسطيني ولحركة فتح ولحركة حماس على حد السواء.

انتهى كل ذلك التعاطف العالمي والأممي والحقوقي مع إطلاق حماس أول صواريخها، بتعلة مساندة سكان حي الشيخ جراح. الصاروخ الحمساوي الأول لم يكن في حقيقته يعني مساندة لعرب فلسطين في القدس المحتلة، بل كان إنقاذا لإسرائيل من مأزقها أمام العالم. لم تكن صواريخ حماس نجدة للفلسطينيين في صراعهم مع المستوطنين والقوات الإسرائيلية، وهو صراع كان يجري بمتابعة العالم، بل كان نجدة لإسرائيل التي تنفست الصعداء بنهاية الأسئلة المحرجة التي كانت تطرح داخلها وخارجها: كيف تدير إسرائيل تنوعها؟ وما مدى مشروعية ديمقراطيتها التي تدعيها وهي عاجزة عن حماية سكان عرب من غطرسة المستوطنين، وهم في غالبيتهم من اليهود المتطرفين دينيا؟

عندما بدأت إسرائيل في الرد على صواريخ حماس بقصف قطاع غزة كانت تفعل ذلك من منطلق سياسي يقوم على أنها تدافع عن نفسها ضد حركة إرهابية، وهو تصور جعل كل فرص المساندة العالمية والأممية لمعاناة شعب فلسطين تتضاءل وتتبدد، وكانت تفعل أيضا من منطلق نجاتها من المأزق الذي وقعت فيه قبل أول صاروخ يطلق من غزة. "لن تنتصر الضحية على الجلاد إذا لم تتفوق عليه أخلاقيا" هكذا قال الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد منذ عقود، لكن حماس قوضت كل فرصة لتفوق الفلسطينيين أخلاقيا على الاستراتيجية الإسرائيلية بأن وفرت سلوكا عبثيا لا يضر بالقضية فقط، بل يجعل القصف الإسرائيلي على المباني في غزة يحظى بمساندة وتفهم عالميين. كانت شعارات "خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سيعود" التي ترفعها قواعد حماس في غزة ورُفعت في بعض المسيرات في العديد من العواصم العربية، هي القطيعة الثقافية والنفسية بين مقاومة الفلسطينيين السلمية والسياسية والمدنية وما وفرته من تعاطف عالمي، وبين صواريخ حماس ودعم إيران وصراخ تركيا ودعم قطر الهامس.

صواريخ حماس، ومثلما كانت إيذانا بتحول إسرائيل من موقع المدان عالميا وحقوقيا، ومثلما وضعت حدا لإمكانية تجذر وعي سياسي فلسطيني جديد (يقطع مع ضياع فتح ومع متاجرة حماس) فإنها كانت أيضا لحظة دخول إيران وتركيا على خط الأحداث الأخيرة. ولم ير رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية ضيرا في أن يشكر إيران- من مقر إقامته في الدوحة- على دعمها "المقاومة" بالمال والسلاح. كان ذلك الشكر تقاطعا ملفتا بين إحداثيات إيران وحماس: حماس حاولت الاحتماء بالأوضاع الأخيرة في القدس من أجل إعادة تسويق نفسها حركة "مقاومة إسلامية"، ولم تجد وسيلة في ذلك غير اللجوء إلى الصواريخ التي تدرك جيدا أنها ستؤدي إلى رد إسرائيلي لن يصيب الحركة في شيء، بل سيطال البنية التحتية المنهارة في غزة. حماس تريد خصخصة الخسائر وتأميم الأرباح، لكنها من دون أن تشعر أضرت مجددا بالقضية الفلسطينية حين حولت المقاومة الفلسطينية إلى مقاومة إسلامية، وحين ألحقت المقاومة الفلسطينية بدفتر الحسابات الإيراني. وفي الجانب الآخر من الإحداثيات المتقاطعة كانت طهران واعية بأنه يمكنها أن تزود حماس بالسلاح، مثلما تفعل مع حزب الله والحوثيين والميليشيات العراقية، لكنها تدرك أيضا أنها غير قادرة على تفكيك المعادلات المعقدة المترتبة عن تهور حماس. كانت إيران عاجزة عن الرد على ما تقول إنه ضربات إسرائيلية لمنشئاتها النووية، لكنها وجدت حماس جاهزة لمناوشة إسرائيل، وفي خلفية كل ذلك لم يحسب الطرفان حسابا للركام الذي سيحدثه القصف الإسرائيلي على غزة، فذلك ليس من حسابات الطرفين.

لذلك لم تكن إيران شريكا في مبادرات الهدنة التي تصدت لها مصر والولايات المتحدة والأمم المتحدة وتم التوصل إلى فرضها يوم 20 مايو الجاري. يشار إلى أن الأحداث الأخيرة في غزة أدت منذ اندلاع القتال يوم 10 مايو إلى سقوط 232 قتيلا فلسطينيا (بينهم 65 طفلا لا تعرف حركة حماس أسماءهم)، في حين ذكرت السلطات الإسرائيلية أن عدد قتلاها بلغ 12 قتيلا، وذلك يحيل على أن صواريخ حماس لم تنجح في تحقيق أهدافها بل أنتجت ذعرا متبادلا من الجهتين، تبعا لأن كل صاروخ حمساوي يسقط في إسرائيل يكلف غزة دمارا في مبانيها وقتلى بين سكانها العزل.

هذه الكلفة الباهظة لمغامرات حماس تدفع إلى التساؤل عن البدائل الممكنة التي توفّقُ بين الذود عن الحقوق الفلسطينية وبين تفادي المغامرات الصبيانية التي لا تنتج سوى الدمار والتنديد العالمي. الواقع أن بحث البدائل الممكنة يحيل إلى منطلقات حماس نفسها سواء في أداءها السياسي أو نظرتها لطبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. تتكئ حماس على منطلقاتها الإخوانية التي تعتبر الصراع مع إسرائيل صراعا دينيا بين مسلمين ويهود. والمفارقة أن هذه المنطلقات، نفسها، مفيدة لحماس ولإيران ولإسرائيل على حد السواء. اعتبار حماس أن القضية هي صراع بن مسلمين ويهود أفرغ القضية من زخمها الوطني، وأفقدها كل معاني التعاطف العالمي، وحرمها من أحقية مشاركة مسيحيي فلسطين ويهودها في التخطيط لمستقبل الشعب الفلسطيني وسبل نيل حقوقه. تنظر حماس، والإخوان عموما، إلى المسيحيين واليهود في فلسطين على أنهم طارئون على الأرض وعلى المشهد، رغم عراقة وجودهم في تلك الأرض. وذلك المنطلق الديني حول النضال من أجل نيل الحقوق الفلسطينية إلى معارك دينية وطائفية ومذهبية.

أما إيران فإنها تتغذى من القضية الفلسطينية التي أصبحت تداعب من خلالها جمهورها الشيعي المسحور بشعاراتها، وكان أوج مظاهر تجارتها بالقضية أن خصصت يوما للقدس تُحرقُ فيه أعلام إسرائيل ويدعى فيه بالموت لإسرائيل وأميركا.

إسرائيل، من جهتها، تحتاج إلى "عدو" ينهل من مناهل دينية أولا لأنه يخدم مقولاتها الدينية وتلاعبها بالتاريخ، وثانيا لأنها تعرف (إسرائيل) أن عدوا عنصريا أكثر نفعا لها من عدو وطني يقرأ جيدا المفردات الحقوقية التي يحترمها العالم. تكتم إسرائيل سعادتها بتهور عدو أخرج القضية من حق الفلسطينيين في أرضهم، وعممها على كل المسلمين، لأن ذلك عوم القضية وحولها إلى مهاترات وخطب حماسية تذوي سريعا. فضلا عن كون إسرائيل تجيد الترويج لكونها إزاء حركة إرهابية لا تتورع في أي لحظة عن إطلاق صواريخها التي تزودها بها إيران عند كل حاجة.

في هذه الأحبولة من الاستفادة المتبادلة من العداء، بين حماس وإيران من ناحية، وبين إسرائيل، يصبح من العسير إيجاد بديل حقيقي واستراتيجي للنظر إلى القضية. وهذا العسر هو ما دفع أقطار عربية إلى أن تختار الاعتراف بإسرائيل والدخول معها في علاقات طبيعية عل ذلك يحسن من أوضاع الفلسطينيين وأحوالهم، وعل ذلك يحرك القضية من الانسداد الواقعة فيه منذ عقود. لكن ذلك لا يعفي الفلسطينيين أنفسهم من ضرورة رسم خط ثالث ينأى عن أسلمة حماس للقضية ومتاجرتها بها في كل سوق سياسة، ويبتعد عن التكلس الذي أصاب السلطة الفلسطينية في الضفة، التي أصيبت بانسداد شرايين مزمن منذ وفاة الزعيم ياسر عرفات.

هذا الخط الثالث الوطني يبدأ أولا بالإيمان بأن قضية فلسطين ليست قضية دينية بل هي قضية شعب في أرضه. قضية وطنية تحتاج أدوات من جنسها، ومفردات حديثة تلاءم العصر وتفهم الوقائع الإسرائيلية، وتقرأ طبيعة التشابك العالمي وتدرك أن العالم لا يرى فلسطين من ثقب نظرة حماس أو من نفق مصالح إيران. وعند تجذير هذه النظرة في واقع سياسي علماني يقطع مع تصورات الإخوان الذي يعتبرون أنفسهم في حرب مع العالم، ومع متاجرة إيران، ومع ألاعيب قطر، يمكن وقتها الحديث عن تجاوز الانقسام الفلسطيني وبحث سبل تشكيل سلطة فلسطينية وطنية ديمقراطية تعيد غزة إلى مدارها الفلسطيني وتسحبها من وضع المنزلة بين المنزلتين الذي أودتها فيه حماس، فلاهي دولة بالمعنى الحديث للكلمة، ولا هي مقاطعة مستقلة ولا هي إمارة بالمعنى الطالباني للكلمة.

في هذا التصور يمكن لمصر أن تلعب دورا مهما وطليعيا، لأنها لن تكون مجبرة على التعامل الحذر المتوجس مع تشكيلات إرهابية على حدودها، من قبيل حماس والجهاد الإسلامي، بل ستتعامل مع جوار آمن وعقلاني وعندها يمكن مقارعة إسرائيل بالقوانين الدولية والمواثيق الأممية وبالأفعال الهادئة الرصينة وبالتعاطف الدولي.